سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
زوجات المنجميين المغاربة يدخلن على خط الصراع من أجل الحصول من مسكن يليق بأسرهن كن مضطرات للسكن مع عائلات أخرى في بيوت ضيقة لا تتجاوز مساحتها خمسين مترا
ما تزال الذاكرة الجماعية بكل من سوس والأطلس تحتفظ باسم «موغا»، الشخص الذي انتدبته الدولة الفرنسية في ستينيات القرن الماضي من أجل اختيار زمرة من الشباب للعمل بمناجم الفحم الحجري بشمال فرنسا، الاختيار وقع على المناطق النائية من سوس والأطلس، بحكم أن «فليكس موغا» خبر أهلها عندما كان ضابطا في الجيش الفرنسي بالمغرب. قليلون اليوم يعرفون تفاصيل تلك الرحلة التي قطعها آلاف من المغاربة الذين أراد منهم «موغا» أن يكونوا مجرد عضلات بكماء لا تسمع ولا ترى ولا تطالب بمجرد قطعة فحم للتدفئة؟ في هذه السلسلة سنحكي، على لسان هؤلاء المغاربة وبعض الباحثين الذين نبشوا في تاريخ هذه الحقبة من تاريخ المغرب الحديث، رحلة أصحاب «السحنات السوداء» الذين ذهبوا منحنين وعادوا مرفوعي الرأس بعد أن ربحوا دعوى التعويض عن سنوات القهر ضد الدولة الفرنسية. عندما انتقلت الأفواج الأولى من زوجات المنجميين من المغرب نحو فرنسا، كان من المفروض عليهن أن ينتظرن سنوات من أجل الإفراج عن المساكن المخصصة لأسر المنجميين، وكن مضطرات للسكن مع عائلات أخرى في بيوت ضيقة لا تتجاوز مساحتها خمسين مترا مربعا. تحكي إحدى الزوجات أنها كانت تنام رفقة أطفالها في الغرفة التي تخصص عادة للضيوف وكانت المعاناة تزداد خاصة وأن أغلب الزوجات قادمات من بيوت واسعة في المغرب وكانت لهن حرية التحرك، بينما أصبحن مقيدات في غرف ضيقة. تقول إحدى الزوجات في شهادتها على هذه الفترة التاريخية إن دورهن للعيش في التعاسة قد حان بعد أن قضى أزواجهن سنوات من الشقاء في المناجم كأن القدر كتب على الجميع الشقاء. ورغم كل هذه الظروف التي كانت من صنع الإدارة الفرنسية فإن نساء المنجميين المغاربة لم يستسلمن لهذا القدر التعيس بل حاولن تبادل الزيارات مع بقية النساء، وكن يشتركن في بعض الحفلات رغم ضيق الفضاءات وكن يجتهدن في خلق أجواء الألفة والأنس بينهن كما هو معتاد على أرض الوطن، كانت مثل هذه المناسبات المحاولات الوحيدة من أجل التخفيف من وطأة الظلم الممارس عليهن. لقد شكل الحصول على سكن تحديا أساسيا لدى المنجميين المغاربة لأن انضمام أسرهم إليهم كان حافزا على استعادة الإحساس بالكرامة والاعتزاز بالذات في ظل استمرار الأجواء العنصرية التي تمارس عليهم يوميا وفي ظل استمرار شروط العمل القاسية داخل المناجم. عندما كانت تعرض على المنجميين مجموعة من المنازل من طرف إدارة المناجم كانوا يرفضونها بسبب غياب شروط الصحة فيها، بدءا بالرطوبة وغيرها، كان هذا الرفض نوعا من التحدي للواقع الذي يعيشونه، إذ لم يعد من المقبول لديهم أن يقبلوا العيش في مثل هذه المنازل مع أسرهم، لأنهم قبلوا أن يخوضوا تجربة الهجرة وفراق الأهل من أجل تحسين ظروف عيشهم في البلد الأصلي، لذلك لم يعد من المقبول لديهم أن يستمروا في مثل تلك الظروف خاصة بعد التحاق زوجاتهم بهم، وهو الأمر الذي أصبح يخلق لهم تحديا نفسيا فهم يريدون أن يكونوا مع زوجاتهم وأطفالهم في منازل وفي ظروف تتناسب والآمال التي علقوها منذ البداية على الهجرة إلى فرنسا. تحكي إحدى زوجات هؤلاء المنجميين أنها بعد طول عناء وانتظار وانتقال بين الأصدقاء حصلت رفقة أسرتها أخيرا على منزل، ورغم أنه منزل صغير فإن فرحتها كانت عارمة، فهي في آخر المطاف أصبح لها بيت ككل نساء العالم يجمعها رفقة زوجها وأبنائها وأصبح من المتاح لها أن تمارس حريتها كاملة في هذا المنزل الصغير. رغم سعادة المنجميين وزوجاتهم بتلك المنازل الصغيرة، فإن فرحتهم لم تكتمل بعد أن اكتشفوا غياب التجهيزات الأساسية في تلك المنازل الضيقة، فهي تفتقر إلى حمامات بحكم أن لهم حاجة ماسة إليها ولولا وجود حمامات بالمناجم لكانت بالنسبة إليهم كارثة، لأنهم لن يستطيعوا التخلص من غبار المناجم داخل علب صغيرة قيل لهم إنها هي التي تمثل الحمام وتفتقر إلى الماء الساخن، أما المراحيض فتوجد خارج المنزل. ولوصف تلك اللحظة قال أحد المنجميين في شهادته حول تلك المعاناة إن جميع سكان الحي كانوا يعلمون بأنك زرت المرحاض بسبب وجوده خارج البيت حيث يضطر كل من أراد استعماله أن يخرج من الباب الخارجي للمنزل الأمر الذي كان يشكل حرجا كبيرا لهم ولزوجاتهم. العمل داخل المناجم كان يؤثر على نظافة العاملين، ذلك أن غياب شروط النظافة الأساسية كان يخلق بعض المشاكل حتى بين المنجميين ونسائهم اللواتي لم يكن يطقن الروائح الكريهة التي تخلفها المناجم في أجساد أزواجهن مما كان يخلق نفورا بين الأزواج كما جاء في شهادة إحدى الزوجات، وكان ذلك سببا في كرههن للعمل في المناجم. لقد أحس المنجميون بأن جعل المراحيض خارج البيت هو نوع من الإمعان في إهانتهم، خاصة إذا تصورنا كيف سيكون حال من أراد الذهاب إلى المرحاض ليلا في منطقة تصل فيها درجة الحرارة إلى أقل من عشر درجات تحت الصفر. كما أن هذه المراحيض كانت تتعرض مجاريها للاختناق خاصة في فصل الشتاء مما يزيد من معاناتهم بحيث يسهرون بأنفسهم على إعادة تشغيلها وإخراج ما علق بها. عموما، لم تكن المنازل التي تقدم للمنجميين المغاربة تتوفر على الشروط الصحية للعيش، فقد كانت كل المنازل التي تقدم لهم تعرف درجة عالية من الرطوبة التي تشكل خطرا على الجهاز التنفسي للأفراد فضلا عن غياب التدفئة، كما أن الطريقة التي تم بها بناء نوافذ هذه المنازل لا تمنع من دخول الضجيج، إذ إن مرور دراجة كان يحدث ضجيجا داخل البيوت، ورغم أن المنجميين كانوا يغيرون في كل مرة هذه المنازل وينتقلون من منزل إلى آخر إلا أنهم اكتشفوا أنها قد صممت بنفس الطريقة غير الإنسانية من أجل إلحاق أكبر الأذى النفسي بالمنجميين وأسرهم، ولا شك أن لعنة توصيات «موغا» لاتزال تلاحقهم حتى في تلك المنازل التي طال انتظارهم لها.