كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكنْ لم تتمخض عن كل الثورات لحظاتٌ كبرى.. وأغلب الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون معنى الثورة.. لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط ويستند إلى نظرية.. إنها ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد طغاة... حدث هذا منذ غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعةٌ مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل لم يترك صدى، ومنها ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس، في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا ب«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية»، المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق... الثورة المكسيكية أولى ثورات القرن ال20 الشعبية، وهي، إن لم تكن ذات أفق إيديولوجي واضح، بخلاف الثورات التي رأينا في الحلقات السابقة، فإنها اتخذت طابعا تحرريا من الاستعمار ولم تخْلُ من أخذ ورد بين مختلف مكونات المشهد السياسي والإيديولوجي المكسيكي ودامت فصولها، من غير انقطاع تقريباً، 30 عاماً كاملة، فلم تستقر إلاّ في 1940، وخلفت نظاماً حاكماً حزبياً دام، بدوره، 60 عاماً، قاده الحزب الثوري النظامي (أو المؤسسي). فلم يتخلَّ عن الحكم، ورئاسة الجمهورية «رأسه» و»مفتاحه» والقوة الراجحة فيه، إلا في العام 2000، مع انتخاب فيثينتي (فيسنت) فوكس إلى الرئاسة. وقد خلّفت الثورة مليون قتيل، وهي ثورة اجتماعية كان الفلاحون والعمال الزراعيون من أصل هندي أصحابَها والمنخرطين فيها وقادةَ بعض حوادثها وفصولها المحلية، وهي حرب أهلية وسياسية ووطنية استقلالية. وقد قضى من أولئك المليون نحو 100 ألف بالمجاعات وبالأنفلونزا الإسبانية وقتل 200 ألف في المعارك المتنقلة، نصفهم من المدنيين. وقد استغلت الثورة المكسيكية أسماءَ أعلامٍ، بعضهم معروف ومشهور، مثل إميليانو زاباتا وبانشو فيللا، وهما من قادة الحركة الفلاحية، أو فرانشيسكو ماديرو وألفارو أوبريغون وألفارو كارديناس، وهم من الرؤساء الذين تعاقبوا على القيادة السياسية والعسكرية، وأرسوا المكسيك والحكمَ على أبنية سياسية استقرت بعض الوقت وأسهمت في جلاء قسمات الأمة المكسيكية و«شخصيتها» التاريخية. وقد تصادف انطلاق الثورة، في 1910، مع الذكرى المئوية الأولى لاستقلال المكسيك عن إسبانيا (1810) واستمرت حتى 1940، ففي ختام العقد الأول من القرن العشرين، انتخب الجنرال بورفيريو دياز رئيساً لولاية سابعة. وكان قد تربّع على سدة الرئاسة في 1876. وانعطف المكسيك، ذلك البلد شاسع المساحة (مليونا كيلومتر مربع) وكثير السكان (فوق 15 مليوناً، آنذاك، منهم مليونان من الهنود) إلى حرب دمرت أركان حكم دياز ونظامه، دام فصلها الأول عقداً كاملا (1920 -1910). وكانت فاتحةَ الحرب أزمة سياسية حادة أخرجت الجنرال المسن من الرئاسة في 1911، ليتولاها مرشح ديمقراطي خلفاً له، هو ماديرو، الذي اغتيل في 1913، لتنشب بعدها حروب بين الفصائل الثورية والشعبية، دامت ستة أعوام (1914 -1920). وطيلة العقدين اللاحقين، توالى على السلطة جنرالات ثوريون يشتركون في انتسابهم إلى ولاية سونورا، على الحدود المكسيكية -الأمريكية، خلف الجنرالات والذين تولّوا مهمة بناء المكسيك وإعماره وإرساء حكمه على أبنية سياسية واجتماعية قوية وتوحيد طبقاته الحاكمة في كتلة مستقرة ومتجانسة. وعشية انهيار نظام دياز، الذي لبث في السلطة 35 سنة، حكم المكسيك رؤساء ليبراليون، آخرهم بينيتو خواريث (خواريز). وفي أثناء عهد خواريث (1861 -1872)، تقدَّمَ المكسيك دولَ أمريكا الجنوبية وتصدَّرَها وجمع السيادة الشعبية إلى الحكم المدني، والفدرالية إلى فصل الدولة عن الكنيسة والحرية الدينية. وردَّ بورفيريو دياز المكسيكَ في غضون سنوات قليلة إلى النظام القديم والمحافظ، فسادت الأسر المتكتلة والمتحالفة وغلبت شبكات الولاء وكتل «الزبائن»، واختصر الوجهاء القرى والمدن ونابوا عنها. وفاز دياز بولاياته الرئاسية المتعاقبة والمتصلة جرّاء تحكمه في مجلس الشيوخ والبرلمان وسيطرتِه على حكام ولايات الاتحاد الفدرالي المكسيكي. ولعل عهده الطويل مرآة أعراف وعادات سادت دول جنوب أمريكا. وقد نتجت الأعراف والعادات هذه عن حمل المجتمع، إذا لم تَقُدْه نخبةٌ متنورة وحازمة، على غابٍ «شريعتُه» الاقتتال والفوضى والبربرية، وغلب على النخب السياسية والاجتماعية والثقافية مثال «حكومة العلماء» وجدارتهم، وحدهم، بالسلطة وتصريفها، ونسبت النخب هذه إلى نفسها، والى من تندبهم وتنيبهم عنها، القدرةَ على ولاية السلطة والدولة وعلى «تدجين» العامة، وتضمن الكنيسة الكاثوليكية هرمَ المراتب الاجتماعية وتؤيده بدالتها المعنوية... والحق أن دور المستثمرين الأجانب، الأوربيين والأمريكيين الشماليين، لا يستهان به كذلك. وتتصدر الإمبريالية الأمريكية، المالية والتجارية والعسكرية، القوى الأجنبية الأخرى، تأثيراً وترجيحاً. وكان شغل الولاياتالمتحدة الشاغل هو السيطرة على مضيق «تيهو وينتيبك» بين المحيطين الأطلسي والهادئ، ما دعا دياز إلى القول الشهير «يا لَسوء حظ المكسيك، فهي بعيدة عن العناية الإلهية، قريبة من الولاياتالمتحدةالأمريكية»... كان معظم سكان المكسيك في 1910 من المزارعين (62 في المائة من العاملين)، وكان المزارعون غير متجانسين، ففيهم ملاّكو المزارع الشاسعة وأصحاب المزارع المتواضعة وملايين الفلاحين المعتاشين اعتياش الكفاف. ورغم الحرب، بلغ نمو الاقتصاد المكسيكي 12 في المائة في السنة، وكانت الصادرات المنجمية والزراعية قاطرة النمو، وربطت السكة الحديدية أنحاء البلاد الواسعة والمتباعدة بشكل جيد وقوّت العلاقة بالولاياتالمتحدة. واستصلحت الأراضي الاستوائية المهملة وتأخرت الزراعات الغذائية وعادت معظم عوائد الازدهار إلى الأسر المختلطة القديمة، المتحالفة مع الليبراليين، بينما تردَّت أحوال الطبقات المتوسطة التقليدية، ومعها جزء من الريفيين. وجنت الولايات الشمالية القريبة من الولاياتالمتحدة أرباحاً من قربها من الأخيرة وشهدت طفرة اقتصادية نجمت عن استغلال الموارد الطبيعية والخامات، مثل النحاس والمعادن الثمينة والنفط، ووُلدت الصناعات المحلية الكبيرة في العشر سنوات الأولى من القرن ال20، على تواضع عدد العمال (195 ألفاً) قياساً مع عدد الحرفيين (500 ألف)، وتوالت حركات إضراب كبيرة قُمعت قمعاً قاسياً في 1906 (مناجم النحاس) و1907 (صناعة النسيج). وحاول الفلاحون الهنود والخلاسيون استعادة أراضيهم المصادَرة في سلسلة جبال «شيهواهويا»، وقلما تخطت الحركات إطارها المحلي أو البلدي. وتضافرت على طي حقبة بورفيريو دياز ثلاثة عوامل: الأول تذمر اجتماعي حاد وفراغ سياسي كبير وبلورة المعارضة لغة سياسية مشتركة وجامعة، فأعراض التذمر الاجتماعي أصابت الطبقات الشعبية والريفيين، الذين خسروا الأرض والطبقة العاملة الناشئة في أحضان المراكز الصناعية الكبيرة. واشتركت النوادي الليبرالية، التي يرتادها الماسونيون والمدرسون الابتدائيون والطلاب وأصحاب المهن الجامعية الحرة في المبادرات والمناقشات. وازن دياز الولاياتالمتحدة ومصالحها بالأوربيين واليابانيين وانحاز إلى مصالحهم ومنحهم تسهيلات مرفئية. وأدى انسحاب دياز من الحياة السياسية، عشية ختام ولايته السابقة إلى أزمة سياسية، وتزاحم السياسيون على خلافته. وفي أواخر 1909، تراجع الجنرال المسن عن انسحابه وقرر الترشح إلى ولاية سابعة، فلم يبق في حلبة المنافسة غير مرشح شاب هو فرانشيسكو ماديرو (37 عاماً)، يتحدر من أسرة شمالية كبيرة. وترك دياز ماديرو يقود حملة حسبها الرئيس «خاسرة»، فجمع ماديرو أنصار جنرال منسحب كان قد ترشح للرئاسة، إلى الليبراليين والنقابيين «الفوضويين» والعمال وأصحاب المزارع الصغيرة وفلاحي الجنوب، وعلى رأسهم إميليانو زاباتا (ثاباتا)، والكاثوليك. وجُدد انتخاب دياز، الذي أمر باعتقال منافسه، فهرب ماديرو إلى الولاياتالمتحدة، ودعا إلى التمرد والثورة. استجاب عمال الشمال، تحت لواء قائد عمالي محلي، باسكوالي أوروذكو، ولحق بهم بعد أشهر قليلة فلاحو ولايتي «موريلوس» و«يوكاتان». وأعلنت الولاياتالمتحدة مساندتها لماديرو وتأييدها له، واستقال دياز في منتصف 1911، وغادر المكسيك إلى فرنسا، حيث وافته المنية. دخل ماديرو مكسيكو منتصراً، فلم تلبث الحزازات والخلافات أن حلت محل الإجماع السابق على معارضة تجديد ولاية دياز. وثار النقابيون «الفوضويون» على الرئيس الجديد وأعلنوا إنشاءهم جمهوريتهم في كاليفورنيا. وانتفض الفلاحون تحت لواء زاباتا وأوروذكو، اللذين اشترطا تقسيم المزارع الكبيرة وتوزيعها على صغار المزارعين. وسرعان ما تخلى بعض أنصار ماديرو عنه، هو الذي حظي ب90 في المائة من أصوات الناخبين، فقد خيَّب ظن بعض أنصاره احترامه المتشدد الفصل بين السلطات وإحجامه عن الاقتصاص من أنصار دياز. وأثار ماديرو حفيظة قادة الفلاحين الثائرين، وفي مقدمهم زاباتا وفيلّلا (فييا) ووثق في كبار الضباط وأوكل حمايته إليهم. فتآمروا وانقلبوا عليه وعزلوه، قبل أن يُقْدِم أحدهم، الجنرال فيكتور يانو هويرتا، على اغتياله في أوائل 1913. وأراد كارانذا، ومعه الدستوريون وأوبريغو وكاييس (وهما جنرالان ورئيسان لاحقان)، إحياء سلطة مركزية جديدة. وكان عليه مقارعة فيللا ورجاله، الذين تجاوزا 40 ألفاً (في 1914)، وهم فلاحون ومزارعون مُعْسرون. وإلى فيللا، حليفه الجنوبي، إميلينوا زاباتا، على رأس جيش من الفلاحين المحافظين، وعددهم 20 ألفاً. وعقد مؤتمر ثوري، في أواخر 1914، تداول خلاله المؤتمرون في صلح بين فرق المقاتلين الثوريين، وأنكروا على كارانذا، الذي حظي بمساندة الأمريكيين، استلام مقاليد الحكم. فخرج كارانذا من المؤتمر، وتبعه أوبريغون. واستولى الاثنان على أوريذابا، ثم على فيراكونذ، وسيطرا، في ما بعدُ، على موارد النفط، بينما استولى زاباتا وفيللا على مكسيكو العاصمة، وبسطا سلطتهما أواخر 1914 على معظم أراضي المكسيك...