يمكن أن نقول ما شئنا عن مشروع الدستور: ممنوح، خرج من القصر، يحافظ على الحكم الفردي، دون مستوى التطلعات،... لكن لا أحد يمكن أن يقول إن الوثيقة الجديدة رجوع إلى الوراء، إلا إذا كان جاحدا حاقدا أو مدمنا على العدمية. الملك الذي كان مقدسا أصبح مجرد شخص لا تنتهك حرمته، وفوّض بعض صلاحياته إلى الوزير الأول، المنهجية الديمقراطية صارت بندا، والأمازيغية لغة رسمية، وحرية المعتقد مضمونة، رغم أن الدستور أمسك العصا من الوسط، «واللهم العمش ولا العمى». وإذا كان المغرب قد خطا خطوة كبيرة إلى الأمام، فإن الفضل يعود إلى الربيع العربي وحركة ال20 من فبراير، التي يستعجل الكثيرون جنازتها، رغم أن الأقرب إلى القبر هي أفكارهم العتيقة التي تريد أن تختصر المتظاهرين في لحية ومنجل، كي تحمي المفسدين. مساء الجمعة، كنت في البيت وسط الرباط أنصت للخطاب، وقبل أن ينتهي سمعت صياحا في الشارع، نظرت من النافذة ووجدت حشدا أمام الولاية، يلبس الراية تعبيرا عن الفرح، النساء يزغردن والصغار يصفرون والكبار يهتفون: «ملكنا واحد محمد السادس»... ابتسمت في البداية، وأنا أرى من اعتقدت أنهم «مواطنون بسطاء تجمعوا تلقائيا» للاحتفال بخطاب الملك، فجأة سمعت طبولا تقرع جهة حديقة «نزهة حسان»، استدرت ولمحت جوقة من «الدقايقية» تهرول في اتجاه الولاية مدججة ب«البنادر» و«القراقب»، ومن وراء الموسيقيين «المتحيرين» شابان يحملان لافتة مكتوبة بخط محترم، تمكنت من فك أحرفها رغم سرعة المشي: «الجامعة الوطنية لكرة الطاولة تؤيد ما جاء في الخطاب الملكي». بدأت ألعب «كرة الطاولة» بين النافذة والتلفزيون وسمعت الملك يقول: «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني. صدق الله العظيم»، وتعالى النشيد الوطني... النشيد الذي سمعت شبانا بوجوه لا تطمئن يرددونه في شارع محمد الخامس، بعضهم يحمل «ثقوب الزين» على وجهه، وعيونه مقلوبة تماما، تحت تأثير مخدر ما. تمشيت بحذر وأنا أتملى بطلعة الشبان المشبوهين، يحملون الرايات ويهتفون باسم الملك، ويتوعدون شباب العشرين من فبراير، واصفين إياهم ب«الخونة»، ومن حين إلى آخر يقتربون من رجال الأمن، كي يطلبوا سيجارة أو درهمين، فيما آخرون يتناقشون مع أشخاص بملامح إدارية حول ثمن «التظاهر»... المشكلة أن لا شعبية الملك تحتاج إلى تظاهرات مخدومة، ولا الدستور الجديد في حاجة إلى حملة بهذه البلادة، لذلك لا يملك الواحد إلا أن يضرب أخماسا بأسداس، وهو يرى البلاد بين أيدي أشخاص لم يفهموا أن أفكارهم توفيت مع المغرب القديم، المغرب الذي انقرض نهائيا في العشرين من فبراير. «المعادلة المغربية صارت معقدة وبأكثر من مجهول، وهم مازالوا يصرون على حلها اعتمادا على جدول الضرب: ضرب المتظاهرين المطالبين بالإصلاح، وضرب المبادرات الملكية!