إن الانتخابات التي أجريت في الثاني عشر من يونيو الجاري، وأعطت حزب العدالة والتنمية الحاكم 50 في المائة من الأصوات وأغلبية واضحة في البرلمان، لهي نصر ليس فقط لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ولكنها أيضا نصر للديمقراطية التركية. حزب العدالة والتنمية سوف يستمر في الحكم لولاية أخرى، وسوف يستغلها في حشد دعم واسع لكتابة دستور جديد والتوصل إلى حل سلمي للقضية الكردية. منذ اعتماد التعددية الحزبية في تركيا عام 1946، لم يحدث أن تمكن حزب تركي من الحكم ثلاث فترات متتالية مع تزايد مطرد في عدد الأصوات التي تنتخبه. جاء الحزب إلى الحكم عام 2002، وبدأ منذ ذلك الحين في إصلاحات سياسية وقضائية، ساهمت في إنعاش الاقتصاد التركي وتطور السياسة الخارجية التركية. إن نتائج انتخابات يوم الأحد الماضي تثبت أن أغلبية كبيرة من الشعب التركي تقر هذا النهج في التطوير والذي أطلقه رئيس الوزراء أردوغان. أحزاب المعارضة هي الأخرى حققت تقدما في الانتخابات. أكبر أحزاب المعارضة، حزب الشعب الجمهوري العلماني الراديكالي، دخل الانتخابات طارحا قضية معينة وتمكن من زيادة مقاعده في البرلمان. وعلى عكس التوقعات، حزب الحركة الوطنية تخطى عتبة ال10 في الماءة من الأصوات، ولكنه فقد بعض المقاعد. تحالف الأحزاب الكردية، المعروف بعلاقته بمجموعة حزب العمال الكردي الإرهابي المحظور، دخل الانتخابات بواسطة مرشحين مستقلين وفاز ب36 مقعدا. ولكن بعض الأحزاب الأخرى، الصغيرة حجما، خرجت من السباق. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار عقودا من الانقلابات العسكرية والممارسات المناقضة للديمقراطية، فإن هذه الانتخابات تثبت مرة أخرى قوة الديمقراطية التركية. يكمن سر نجاح حزب العدالة والتنمية، بشكل رئيسي، في مقدرته على الموازنة بين التحول الديمقراطي والإصلاح، من جهة، وبين الخدمات العامة على مستوى الأمة والنمو الاقتصادي المطرد، من جهة أخرى. رد فعل السوق على نتائج الانتخابات جاء على شكل إيجابي، ومن المتوقع أن يستمر الاقتصاد التركي في النمو. على الصعيد الداخلي، هناك قضيتان ستسيطران على أجندة الحزب الحاكم السياسية. الأولى، كتابة دستور جديد، حيث كتب الدستور الحالي جنرالات الجيش بعد انقلاب عام 1980 العسكري، وهو مكتوب بصيغة تقدّم الدولة على المواطن ويعاني من فجوات في مجال الديمقراطية والحريات العامة. ورغم أن الدستور الحالي قد جرت عليه تعديلات عديدة، فإنه أصبح قديما ولا يلبي متطلبات تركيا القرن الحادي والعشرين. هناك إجماع عام على الحاجة إلى كتابة دستور جديد. وإذا أخذنا الاستقطابات التي تسود المجتمع التركي بشأن قضايا سياسية مهمة، فإن مهمة حزب العدالة والتنمية لن تكون سهلة. وكما قال أردوغان في كلمته بعد انتصار حزبه مساء يوم الأحد الماضي، فإنه سوف يسعى إلى الحصول على إجماع واسع النطاق يضم أحزاب المعارضة والمنظمات غير الحكومية في قضية كتابة دستور جديد. ولعله من المفيد لأحزاب المعارضة أن تستجيب بشكل إيجابي لدعوة أردوغان والعمل مع الحكومة لكتابة الدستور الجديد، الذي سيرفع تركيا إلى مصاف الديمقراطيات المتقدمة على الصعيد العالمي. القضية الثانية التي تتطلب استجابة عاجلة هي القضية الكردية، ذلك أن سنين الإنكار والقمع والإهمال والتعصب القومي المدعوم من الدولة كلفت تركيا أكثر من أربعين ألف نَفْس ومئات المليارات من الدولارات، بالإضافة إلى سيطرة القضية الكردية على أجندة الأمن القومي التركي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي. لقد خلق هذا الوضع كيانات معارضة على كلا الجانبين تستقي مفاهيمها من أفكار وخلفيات مدمِرة. ورغم معارضة الجيش وأحزاب المعارضة، مثل حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة الوطنية، فإن حزب العدالة والتنمية الحاكم قام بخطوات جريئة مثل السماح باستخدام اللغة الكردية. أما المبادرة الديمقراطية التي أطلقت لمعالجة القضية فتستند إلى ثلاثة مفاهيم: الحقوق الديمقراطية والتنمية الاقتصادية ونزع سلاح حزب العمال. ورغم تحقيق تقدم ملموس في تطبيق المفهومين الأول والثاني، فإن الثالث لا يزال عصيا على التطبيق، حيث لا يزال حزب العمال الكردي يرفض نزع سلاحه، الأمر الذي يجعل التطبيق الشامل للحل السياسي مستحيلا. أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد كانت لانتخابات 12 يونيو أهمية كبيرة في هذا الجانب. ففي الوقت الذي تحول فيه الربيع العربي إلى فوضى شاملة في ليبيا واليمن وسوريا، برزت تركيا كواحة للأمان والاستقرار. الربيع العربي أسهم في تقوية مركز تركيا الإقليمي ولم يضعفه كما تردد، ودعم تركيا للتغيير في العالم العربي استقبل بشكل إيجابي من شعوب مصر وليبيا وتونس وسوريا. كما أن تركيا مصممة على الانخراط في السياسة العربية على مختلف الصعد. إن الأحداث الأخيرة في سوريا لها تداعيات خطيرة على تركيا، ونظرا إلى انتهاء الانتخابات، فمن المرجح أن يخصص رئيس الوزراء أردوغان المزيد من الوقت للقضية السورية، وسوف تستمر الجهود التركية لتحقيق التغيير السلمي في سوريا. أنقرة قد بدأت، بالفعل، في حَثِّ دمشق على إجراء إصلاحات والتوقف عن ممارسة العنف تجاه المدنيين. ردود دمشق حتى الآن جاءت غير متعاونة ومخيبة للآمال، الأمر الذي حدا بأردوغان إلى وصف ما يحدث في سوريا بكونه «وحشيا» و«غير إنساني». وإذا استمرت دمشق في تطبيق السياسات القمعية، فمن المرجح أنها سوف تعاني من عزلة إقليمية حقيقية. إن التصويت للحزب الحاكم ثلاث مرات متتالية، يعني أن الناخبين الأتراك قد جددوا ثقتهم في رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحكمه للبلاد. وفي الوقت الذي ستتطلب فيه قضيتا الدستور والأكراد خبرات سياسية كبيرة، فإن الولاية الجديدة سوف تصب في صالح تقوية الديمقراطية التركية وتدعم وزن تركيا ومكانتها الإقليمية والدولية.