18 يوما كانت كافية للإطاحة بفرعون وعائلته. 18 يوما من المظاهرات ووقفات الاحتجاج والمواجهات مع قوات البوليس، بمن فيها «شرطة الجمال» و«البلطجية» التي دخلت على الخط. ابتداء من عينات تمثيلية لمختلف الشرائح المصرية، يصف الصحفيان غيبال وصالاون الوضع العام للبلد الذي دخل منذ 25 يناير في المسلسل الحتمي للتغيير. كان يوم 25 يناير إذن «يوم الغضب»، وهو يوم العيد الوطني للشرطة. في ذلك اليوم استفاقت مصر من التعب، مرهقة بالإحباطات. في مقاربتهم لثورات الربيع العربي، أكد المراقبون السياسيون والمتخصصون في الشأن السياسي على عنصر المفاجأة كمقياس حاسم في هذه الثورات. فمن ذا الذي تنبأ أو كان يتوقع أن ينتفض المواطنون، حتى لا نقول الجماهير، تلافيا للحمولة الماركسية للكلمة، في وجه أنظمة حسبت أنها أزلية؟ لذا، فإن المفاجأة هنا خلخلت أيضا ليس فحسب الأنظمة، بل التصورات العقلانية في مسألة زمن الثورات، اندلاعها، تحققها أو فشلها. وبما أن الانقلابات لم تعد موضة، فإننا اليوم أمام «براديغم» جديد هو المفاجأة بصفتها نموذجا جديدا وغير مألوف، حتى إن عقد البعض قرابة بينه وبين الثورة الفرنسية لعام 1789 أو مع انتفاضات وقعت في أمكنة أخرى من العالم. المهم أن حقل التأويل والبحث في الميكانيزمات الداخلية مفتوح على سلسلة من الأسئلة والقضايا مثل: هل ما يعيشه الوطن العربي تحت تسمية «الربيع العربي» يعد ثورة؟ أم انتفاضة؟ أم تمردا؟ أم كل هذه الأحداث؟ هل زمن الثورة في تونس ومصر، وفي الخليج والمغرب العربي هو نفس الزمن؟ لماذا نجحت الثورة في تونس ومصر وتعثرت في البحرين أو في الجزائر؟ على أي، ثمة تزاوج بين الثورتين التونسية والمصرية في أكثر من نقطة. كانت تونس سباقة إلى الإطاحة بالطاغية زين العابدين بن علي. تلتها مصر لتنهل من دروسها وتبتكر في نفس الوقت أساليب جديدة للمقاومة انتهت برحيل فرعون. لكن إن تخلصت تونس ومصر من الطاغيتين فإنهما لم تتخلصا بعد من بقايا نظامهما. فلا زالت جيوب المقاومة تنشط في السر لإعاقة التغييرات. من بين الدراسات والكتب الفورية الصادرة عن ثورات الربيع العربي، هناك البحث السياسي الذي ينكب على التكوينات الداخلية والعوامل المسببة لاندلاع هذا الحدث، وهناك التحقيق الصحافي الذي رافق المعيش اليومي للمواطنين، وبالأخص الشباب الذين يبقون الفاعلين الرئيسيين في مسلسل الاعتصام، النضال، والاحتجاج. وللحقيقة، لعب بعض هؤلاء الصحافيين دور الناقل الحي والأمين، بل المساند أحيانا. في هذا الكتاب، آلف كل من كلود غيبال وطنجي صالاون جهودهما لإنجاز هذا التحقيق الحي، الذي يقربنا من مسلسل الأحداث التي عاشتها مصر والتي قادت إلى رحيل فرعون. كلود غيبال (37 سنة)، مراسلة صحيفة «ليبراسيون» و«فرانس أنفو» منذ عام 2000 بالقاهرة، هي إحدى الصحفيات اللائي يعرفن من الداخل مصر، حيث تقرب تحقيقاتها المكتوبة أو المسموعة القارئ والمستمع من دواخل مصر، وجوانبها المتشابكة والثرية. طنجي صالاون (38 سنة)، مراسل «لوفيغارو» و«رتي إيل» بالقاهرة. 18 يوما كانت كافية للإطاحة بفرعون وعائلته. 18 يوما من المظاهرات ووقفات الاحتجاج والمواجهات مع قوات البوليس، بمن فيها «شرطة الجمال» و«البلطجية» التي دخلت على الخط. ابتداء من عينات تمثيلية لمختلف الشرائح المصرية، يصف الصحفيان الوضع العام للبلد الذي دخل منذ 25 يناير في المسلسل الحتمي للتغيير. كان يوم 25 يناير إذن «يوم الغضب»، وهو يوم العيد الوطني للشرطة. في ذلك اليوم استفاقت مصر من التعب، مرهقة بالإحباطات، والكل يتذكر الفعلة الشنيعة للشرطة قبل ثمانية أشهر، وتحديدا بمدينة الإسكندرية، حيث قتل شاب على يد الشرطة المدنية. هشموا رأسه عند مدخل العمارة التي يسكن بها. اسمه خالد سعيد. بعد أيام قليلة على اغتياله البشع، طافت صورة وجهه المتورم بالكدمات على الإنترنت، خلفت استياء كبيرا لما نشرت على أعمدة بعض الصحف الوطنية. كيف الاحتفال إذن بالعيد الوطني للشرطة في ظرفية يستنكر فيها المجتمع المدني نظاما أمنيا يسيره رجل يتربع على رأس السلطة منذ قرابة 30 عاما؟ في هذا اليوم من الخامس والعشرين من يناير دعا الفاعلون في المجتمع المدني إلى التظاهر، مع العلم بأن موجة الغضب بدأت في التصاعد قبل أيام، تحديدا منذ 17 من ديسمبر، اليوم الذي أحرق فيه محمد البوعزيزي نفسه، والتي كانت إيذانا بثورة الياسمين التي أطاحت بالطاغية بن علي. شاهد وتابع المصريون باندهاش بالغ «حمى الحرية»، التي تمكنت من تونس. وفي الوقت الذي هرب الطاغية بن علي في اتجاه العربية السعودية، مست العدوى بلاد النيل. احتذاء بمحمد البوعزيزي، أحرق أربعة أشخاص أنفسهم في مصر، على الرغم من الفتاوى الصادرة عن بعض الأئمة بإيعاز من النظام. في السادس من أبريل، أطلقت مجموعة من الشباب على موقع ال«فايسبوك» نداء إلى المواطنين لدعوتهم إلى التظاهر. التحقت بهم مجموعة من المعارضة، بعضها شرعي والبعض الآخر سري، مثل حركة «كفاية» التي كانت أولى حركة دعت، منذ 2004، إلى رحيل الرئيس مبارك، أو حركة الإخوان المسلمين. في 25 من يناير عند منتصف النهار، أمام جامعة القاهرة، جاب رجال من أمن الدولة المنطقة لطرح أسئلة على الصحافيين الأجانب، ولإرهاب الحضور. من بين الأسئلة التي كانوا يطرحونها على الصحافيين: «من أين تستقون الأخبار؟ من الإنترنت طبعا؟». في شارع رمسيس بوسط المدينة بالقرب من نقابة المحامين تجمعت مجموعة صغيرة. فجأة اتقدت عينا رجل ليخرج بعد دقائق من تحت معطفه لافتة كتب عليها «مبارك ديكاج». بعد ذلك بدأ الحضور يتكاثر. نفس الشيء تم في السويس، في الإسكندرية، في أسوان، وأسيوط. في ميدان التحرير بقلب القاهرة تجمع قرابة 15 ألفا إلى 20 ألف شخص يحيطهم حزام أمني. وبدأت الهتافات «مبارك، السعودية ليست بعيدة». لم تعرف القاهرة مظاهرات من هذا القبيل منذ سنة 2003 لما خرج المتظاهرون للتنديد بحرب العراق. تشكل المتظاهرون من خليط من جميع الشرائح الاجتماعية: أساتذة، أمهات، إسلاميون، طلبة». كلهم مجازون. ثم ما لبثت أن تدخلت خراطيم المياه لتفرقة المتظاهرين، تبعتها القنابل المسيلة للدموع، لكن المتظاهرين لم يتأثروا بهذه الأساليب القمعية. لم تألف مصر، التي عاشت لمدة قرابة 30 عاما تحت قانون الطوارئ، مثل هذه المشاهد. وبقيت محاولات البوليس لإغلاق المنافذ المؤدية إلى الشوارع الكبرى من دون نتيجة. في هذه الظرفية أظهر وزير الداخلية، حبيب العدلي، وجهه القمعي من خلال تهديداته المتكررة. وجاء قطع خطوط الهاتف في هذا السياق بهدف خنق أي إمكانيات للتواصل عبر الإنترنت وال«فايسبوك» وال«تويتر». ول«تهدئة» الوضع قام النظام بسلسلة إجراءات، منها تخفيض أثمنة المواد الأساسية، خلق فرص الشغل لأصحاب الديبلومات، منح تعويضات للموظفين. غير أن الحيلة لم تنطل على المتظاهرين، الذين تابعوا تحت سيول من الغازات المسيلة للدموع، التظاهر لإسقاط النظام. في هذا اليوم كانت الحصيلة أربعة قتلى ومائة من الجرحى. وتلاحقت الأحداث منذ ذاك اليوم الحاسم، حيث صعد النظام خطط القمع، بنشره «البلطجية» عند أبواب الميترو، للتحقق من هويات «المشتبه فيهم» أو لتكسير المظاهرات. وعلى بعد 100 كلم من شرق القاهرة كانت السويس تبكي موتاها. كما وقعت اصطدامات عنيفة خلال تشييع جنازات متوفين قضوا حتفهم تحت رصاص البوليس، ومنع الصحافيون من الوصول إلى المدن، التي كانت ميدانا للأحداث. وفي المساء، قطع النظام حبل ال«تويتر». حفل وداع مبارك في السابع والعشرين من يناير، وكان يوم جمعة، على الساعة الثانية عشرة وصلت رسالة عبر ال«فايسبوك». الموضوع تنظيم حفل وداع لحسني مبارك.. وقد وضع آلاف ال«فايسبوكيين» علامة على كلمة «احضر»، بمعنى أن الرسالة دعت المتظاهرين إلى التجمع لتناول فنجان على نخب رحيل الطاغية فرعون. في ساحة الجيزة، تعالت أصوات المؤذنين لدعوة المؤمنين إلى الصلاة. وفي الساحة تواجد رجال الأمن المركزي بأعداد غفيرة. تقدم محمد البرادعي محاطا بحراس شخصيين، ولما عرضت عليه الميكروفونات للإدلاء بكلمة حافظ على صمته، فقد عقد العديد من المصريين على الرجل آمالا كبيرة، لكن غيابه المستمر خارج مصر لم يعزز شعبيته. على أي، كان الجو مشحونا وينبئ بمفاجآت عديدة. اكتظت الساحة بالمتظاهرين، وما أن انتهت الصلاة حتى تهاطلت القنابل المسيلة للدموع وتدخلت خراطيم المياه. لكن المتظاهرين خرجوا من كل الفجاج، نساء وأطفالا...، فيما التهبت المدينة بكاملها. عرفت المدن الأخرى نفس الانتفاضة: الإسكندرية، السويس، أسوان، المنصورة... وبنفس الشراسة تدخلت قوات الأمن لقمع المتظاهرين. في القاهرة على الجسور، وقبل الوصول إلى ميدان التحرير، وضعت الشرطة الحواجز في وجه المتظاهرين، كما أطلقت عليهم النار بعيارات بلاستيكية ثم بالرصاص الحي. في المنازل، أمام شاشات التلفزيون، حذر إعلان من وشك فرض حظر التجول بين السادسة مساء والسابعة صباحا. وعند منتصف الليل، وبعد ست ساعات من الانتظار، أطل حسني مبارك على الشاشة لأول مرة منذ اندلاع الأحداث، شاحب الوجه، منفصلا تماما عن الواقع، وتكلم ليعلن عن استقالة الحكومة. ومباشرة بعد الخطاب، وصلت مبارك مكالمة هاتفية من باراك أوباما دعاه فيها إلى الوفاء بالتزاماته على مستوى الإصلاح الديمقراطي، الاقتصادي والسياسي. في الخارج، كانت القاهرة تعيش التهابا وحريقا، كما لم تعشه منذ حريق عام 1956. سرى الحديث عن عشرات القتلى، بل أكثر. مسيرة المليون جاءت مسيرة المليون في الفاتح من فبراير. الرجال على اليمين، والنساء على الشمال. اعتلى بعض من الجنود دباباتهم ليدخنوا سجائرهم ويراقبوا الحشود الوافدة من كل أنحاء البلاد والمتجهة إلى ميدان التحرير. اللافتات والشعارات تنادي جميعها: «ارحل». وفيما أعلن التلفزيون الرسمي عن تواجد 5000 متظاهر، أشارت قناة «الجزيرة» إلى مليونين. كما أكد التلفزيون الرسمي على أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مؤامرة، وأن شباب ميدان التحرير ليسوا سوى عصابة من الحشاشين يعملون لصالح إسرائيل وإيران. أما فيما يخص الصحافيين الأجانب، فقد حجز النظام الكاميرات بمجرد وصول هؤلاء إلى المطار. أما وزير الإعلام فقد اختفى بالمرة.
مستقبل مصر لازال غامضا في هذا اليوم، شعر المصريون باستعادتهم كرامتهم. لما ظهر مبارك مرة ثانية، على الشاشة، بشعره المصبوغ بالأسود الغامق، ووجهه الشاحب، خاطب المصريين ليقول لهم إنه لن يترشح لولاية سادسة كان مقررا إجراؤها في شهر سبتمبر، وبأنه سيقضي الأشهر الأخيرة من ولايته لضمان انتقال سلمي للسلط. ولبضعة أيام نجح مبارك في استمالة مشاعر بعض المصريين الذين خرجوا لتنظيم مظاهرات مضادة لصالح النظام، لكن في هذا اليوم من الجمعة 11 فبراير، بعد 18 يوما من الاحتجاجات والمواجهات الدامية، أعلن نائب «الريس» عمر سليمان بأن حسني مبارك تخلى عن رئاسة الجمهورية. ألقى خطابا لم يدم سوى 30 ثانية انتقلت فيه مصر إلى حقبة جديدة من تاريخها. بعد رحيل مبارك لا يزال الوضع غير واضح. أغلبية المؤسسات السياسية معلقة، ولا يزال حظر التجول، وإن كان جزئيا، ساري المفعول. أما على المستوى الاقتصادي، فإن الوضع جد متعثر: المواقع السياحية فارغة. كما انعكست الإضرابات على دينامية العديد من المؤسسات الاقتصادية. كما أن المستثمرين الأجانب يراهنون على المدى البعيد، وليس القريب أو المتوسط، على الاستقرار السياسي والاقتصادي للبلاد. أما السلطات فتنتظر أن لا يتجاوز معدل النمو لهذه السنة 3 بالمائة في نهاية العام المالي الحالي، في الوقت الذي يشير الخبراء إلى أن الاقتصاد المصري إن بلغ معدلا دون 6 بالمائة فإنه غير قادر على توفير فرص للشغل. أما البطالة فقد سجلت في أوساط الشباب من حاملي الدبلومات معدلات خيالية. غير أن المشهد ليس قاتما بالكامل، إذ حافظ التضخم على نفس النسبة، أي 10 بالمائة. كما أن الأسعار لم ترتفع كما كان متوقعا. أما الجنيه المصري فلم يصب بالانهيار. لكن بالرغم من هذه النقاط الإيجابية التي هي مدعاة للتفاؤل، فإن المواطن المصري قلق على مستقبله.