في أيام الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو، كانت الصحافة الإسبانية شبيهة بجوقة عرس تعزف في صالة خلفية، بينما الحاكم دائما في الواجهة، يخطب ويدشّن ويظهر في التلفزيون ويعد بمزيد من الخبز والازدهار للشعب الإسباني الذي كان مرغما على تصديق الكثير من الأشياء. في تلك الأيام، كان جزء من الإسبان خارج البلاد بعد أن شردته الدكتاتورية في كل أصقاع الأرض، ولم يعود إلى البلاد إلا بعد موت فرانكو. وداخل إسبانيا، كان هناك تياران يتصارعان، تيار حاكم يؤمن بمزايا الدكتاتورية، وتيار صبور ينتظر الموت فقط لكي يتخلص من دكتاتورية لم يكن هناك من يستطيع انتزاع عروقها غير عزرائيل. في ظل هذا الوضع، لم يكن هناك إعلام حر بالمرة. وكما هي العادة دائما في مثل هذه الحالات، فإن البديل هو النكات، النكات المرة بالتحديد، إنها وحدها التي تستطيع تجاوز كل أشكال الرقابة والقفز على كل أنواع الحواجز. وخلال فترة الأربعين عاما التي حكمها فرانكو، اخترع الإسبان آلاف النكات التي تحكي عن كل شيء، عن الدكتاتور وعن الحكومة وعن الجيش وعن المثقفين وعن الصحافة.. وعن الشعب أيضا. النكات التي تولد تحت سيف الدكتاتورية لا يفلت من قبضتها أي شيء. من بين النكات التي كانت تقال عن الصحافة في زمن فرانكو أن الإعلام الإسباني لا يختلف بالمرة عن الإعلام البريطاني أو الأمريكي في مجال الحرية التي يمارسها. فالإعلام البريطاني، مثلا، يمارس حرية متطرفة تصل حتى الانتقاد اللاذع للمكلة والأسرة الحاكمة. والإعلام الأمريكي يمارس حرية متقدمة جدا إلى درجة أنه يستطيع أن يطيح برؤساء أمريكا. كذلك كان الإعلام الإسباني، الذي لم يكن يتورع عن ممارسة نفس الشيء الذي تمارسه الصحافة في بريطانيا أو أمريكا وينتقد ملكة بريطانيا ورئيس أمريكا كما يشاء.. يعني أن الأشياء واضحة جدا، على الإعلام الإسباني أن يمارس حريته كما يشاء، لكن بعيدا جدا عن فرانكو. المغاربة يتذكرون جيدا زمن «سنوات الرصاص» الإعلامي، أيام كان التلفزيون المغربي مخوصصا باسم الملك الراحل الحسن الثاني، إلى درجة أن أي فيلم لا يعجبه كان يتم وقف بثه في الحال، وأي برنامج لا يروقه كان يتم تعويضه في رمشة عين بفاصل موسيقي ولقطات من فصل الربيع. في تلك الفترة، لم يكن من الصعب فقط سماع رأي مخالف لصوت الحاكمين، بل حتى أخبار حوادث السير في المغرب كانت غائبة. وفي الوقت الذي كان فيه مذيعو الأخبار يبدؤون عادة النشرة الدولية بأخبار حوادث السير وانقلاب القطارات في بنغلاديش والهند وبوليفيا، كانت جنازات كثيرة لضحايا حوادث السير تخرج قرب أنف التلفزيون، ولا أحد ينتبه إلى ذلك، والسبب ببساطة هو أن الأنظمة التي تقمع حرية التعبير، تخاف من ظلها، وترى أنه حتى خبر حادثة سير يمكن أن يوتر الأوضاع ويجعل الناس يتمردون. في ذلك الزمن، اكتشف المغاربة وسيلة رائعة للتنفيس عن ذلك الكبت السياسي الفظيع، واخترعوا مئات النكات العجيبة، وصار الناس يضحكون حتى يستلقوا على أقفيتهم كلما سمعوا نكتة سياسية، لأنها الوسيلة الوحيدة للانتقام من تكميم أفواه الناس وتخويفهم. اليوم، لا تبدو الأوضاع بالمرة مشابهة لذلك الزمن. والمغاربة صاروا يفتحون أفواههم داخل عيادة طبيب الأسنان وخارجها، ويبدو أن النكات السياسية، التي ازدهرت بشكل كبير أيام الحسن الثاني، صارت اليوم مهددة بالانقراض، ويبدو ذلك شيئا طبيعيا لأن الصحافة صارت تكتب أشياء كثيرة، وفي التلفزيون، عندما تتراجع قليلا برامج الرقص والطبخ، يمكن أن نرى برامج سياسية أو اجتماعية تتميز بقدر جيد من الجرأة، وبعد ذلك جاء الأنترنيت وحطم كل الحواجز،، ثم جاءت شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتربعت على رأس كل شيء. لكن في الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن قطار حرية التعبير سائر في سكته ولن يوقفه شيء، حدثت تلك الرجة وبدأت المحاكم تستقبل من جديد صحافيين اعتقلوا لأنهم كتبوا ضد الفساد، وهي نفس المحاكم التي لم تستقبل ولو مرة واحدة لصوصا كبارا سرقوا قوت شعب. وخلال العقد الأخير، وهو العقد الذي يحلو لكثيرين تسميته بالعهد الجديد، أغلقت مؤسسات صحافية واعتقل صحافيون ومنع آخرون من الكتابة وحوكم آخرون بتهم ثقيلة. من يريد أن يعود بالمغرب إلى زمن النكات المرة؟