سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
محمد المصباحي: هذا الحراك التاريخي لشباب 20 فبراير عكَسَ وحدة الشارع المغربي وتعطشه إلى الحداثة أكد أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس أنه لم يسمع أحدا يطالب بالإنصات إلى موقف المثقف ورؤيته إلى رياح التغيير
- «هذا الحراك التاريخي لشباب 20 فبراير عكَسَ وحدة الشارع المغربي وتعطشه إلى الحداثة بأبعادها المختلفة» يعكس الحراك السياسي والدستوري الأخير وضعا ثقافيا يستحق التأمل، فقد خرج في 20 فبراير إسلاميون وماركسيون وأمازيغيون ومستقلون يطالبون بمطالب متجانسة، تنتمي كلها إلى نسق الفكر السياسي الحديث، كيف يمكن استثمار هذا المكسب لترسيخ دولة حديثة؟ بالفعل، برهن هذا الحراك التاريخي، الجامع لشباب 20 فبراير، أولا، على وحدة الشارع المغربي، بحساسياته السياسية والإيديولوجية والثقافية المختلفة، وهذا مكسب كبير من شأنه بناء المستقبل على أسس متينة، وثانيا، على تعطش هذا الشارع إلى الحداثة، بأبعادها المختلفة، وخاصة حداثة الدولة، الفاعل الأساسي للتاريخ المغربي، وثالثا، على قدرة السلطة الأعلى في البلاد على الإنصات إلى تطلعات الشارع والتجاوب معها. هذه وغيرها مؤشرات تنبئ أن الجميع قد انخرط في تكريس مبادئ الدولة الحديثة، فبعد أن كان التاريخ المغربي يتحرك بمحرك لا يتحرك، صار المحرِّك نفسه يتحرك، من أجل أن يحرك... وما كان ذلك ليحدث لولا أن اندفع شباب يافعون، مدفوعون بحس سياسي يكاد يكون فطريا، في حركة غير مسبوقة، ليقلبوا الأفكار والأساطير والمعتقدات والموازين ويزلزلوا تفكير وسلوك المؤسسات والأحزاب والنقابات: إنه لأمر جديد طرأ على تاريخ المغرب وعلى وجدان شعبه. لم تقتصر حركة 20 فبراير على رفع شعارات متصلة بما هو اجتماعي أو سياسوي أو ثقافوي فقط، بل تعدّتْه إلى ما هو مؤسسي، أي إلى السياسة بمعناها القوي، باعتبارها إعادة نظر جذري في المؤسسات المناط بها صناعة المستقبل، وهذا ما جذب إليها الانتباه وأضفى عليها طابعا تأسيسيا، قوامه تغيير الدستور، الذي تتقاطع فيه كل المطالب. يتعلق الأمر، إذن، بزمن جديد محركه التغيير في اتجاه المستقبل والانخراط في مجرى الديمقراطية العالمي. ولعل هذا هو معنى الحداثة. ينبغي أن نعترف جميعا أن هذه الحركة الحداثية أنقذتنا من ضيق وقنوط الدروب المسدودة وفتحت الباب، واسعا، أمام المطالب العامة، في إطار فضاء عمومي جديد لا عهد للأجيال السابقة به، فضاء تواصلي رقمي وصوري يلتئم فيه كل المغاربة، من مختلف المشارب والفئات والانتماءات، على حد سواء، للحوار بكيفية أخلاقية وعقلانية وديمقراطية، للوصول إلى حلول وسطى توافقية، قابلة للتطوير باستمرار وقادرة على الدفع بالأمة إلى الأمام. ومن علامات نضج هذه الحركة أنها تجاوزت ثنائيات القطيعة والاتصال لتذهب، مباشرة، نحو استعادة الروح المغربية، الأصيلة والشاملة، مع إضفاء معنى جديد عليها، يليق بتحديات هذا العصر، قوامه جعل الإنسان، من حيث هو مواطن، غاية هذا الحركة التغييرية. وقد بدأت ملامح هذا الإنسان الجديد تظهر: فهو مواطن واع، مسؤول، مؤمن بعزة بلاده، متطلع إلى مستقبل زاهر لشعبه، رافض لأي نوع من القصور و»استخدام» الأوصياء له، متحرر من عُقَده وأساطيره، منفتح على غيره، معترف به ومتفاعل معه... كل هذا من أجل الحرية، الاسم الآخر للمغاربة. باختصار، حركة 20 فبراير هي بداية من نوع جديد لتاريخ المغرب، لكنها بداية موجودة في المستقبل وليس في الماضي. والسر في ذلك يعود إلى أن شباب اليوم لم ينطلقوا في حركتهم من إيديولوجيا معيَّنة تمارس الإقصاء والنفي على الإيديولوجيات المنافسة لها، فأكسبهم ذلك حرية لا حدود لها وقدرة على الجمع والتوافق بين كل المِلَل والنِّحَل. حتى الشبان الذين جاؤوا إلى الحركة مؤمنين، مسبقا، بتصور جاهز للعالم، تحركهم الطاعة لأوامر شيوخهم ودهاقنتهم، انصاعوا إلى منطق الحركة، المنفتح والمرِن. إنها حركة بلا أبواب، فمن أراد أن يدخل فليدخل، ومن أراد أن يخرج فليخرج. أضفى هذا التحرر من قيود الماضي على هذه الحركة طابعا إيجابيا: فهي تنادي بالبناء أكثر من الهدم، بالديمقراطية والعقلانية والحوار، دون أن تتخلى عن حزمها في محاسبة من تسببوا في هدر أموال الشعب ومكتسباته الديمقراطية. - في نفس السياق، ظهرت أصوات كثيرة تطالب بالإنصات إلى الشباب، منها أصوات رسمية، ولكننا لم نسمع أحدا يطالب بالإنصات إلى المثقف، هل نفهم من هذا أن مفهوم المثقف ينتمي إلى الماضي أم إن الحاجة إليه ما تزال قائمة؟ بالفعل لم نسمع أحدا يطالب بالإنصات إلى موقف المثقف ورؤيته إلى رياح التغيير، لسبب بسيط هو أنه لم يجرؤ، يوما، على القيام بالخطوة الأولى والنزول إلى الشارع لاقتسام فضائه مع الدولة، التي كانت «تحتكره» ولا تسمح لغيرها بالنزول إليه والكلام باسمه. ومع ذلك، لا يمكن أن ننكر أن المثقف هو، بطبيعته، كائن يستبق المستقبل، بحاسة استثنائية، ويعبّر عنه علانية في الفضاء العمومي الخاص بالمثقفين، على شكل رواية أو شعر أو لوحة أو موسيقى أو فلسفة أو مقالة صحافية... فالمثقف، بحساسيته المرهفة ومفاهيمه الخصبة وخيالاته الحرة، كان، دائما، في الصفوف الأمامية لاستشراف التاريخ وتوقع أحداثة. إلا أنه تنقصه الجرأة اللازمة لحشد الجماهير والخروج بها إلى الشارع برؤية مستقبلية مدهشة ومقنعة للجميع. أمام هذا التقاعس، لم تجد الشبيبة ال»فايسبوكية» بُدّاً من استثمار أحدث ما حققته الثورات الإعلامية والمعلوماتية والتواصلية من أدواتٍ ووسائلَ لالتقاط إشارات المثقفين والشباب، المتعطش إلى العدالة والحرية، وإعادة بثها بطرق جديدة وبسيطة قادرة على تعبئة الشارع. ويبدو الأمر، لأول وهلة، وكأنه مجرد لعبة تواصلية ولكنها، في الأخير، صارت أكثر جدية من مقررات اللجن المركزية والمكاتب السياسية للأحزاب وجمعيات المجتمع المدني. من جهة أخرى، إذا كان المثقف غالبا ما ينتمي إلى المؤسسات، إن لم يكن هو بنفسه مؤسسة، فإن ما يميز الحركة الشبابية هو انعتاقها من استرقاق البنيات العتيقة، فهي خفيفة الحركة والتفكير، لا يلتفّ حول فكرها أي «طوق» من الأطواق الإيديولوجية والثقافية الثقيلة. ومن هنا، جاءت طراوة رؤيتها إلى المستقبل. ومع ذلك، لا بد من الإنصات إلى المثقف، لا لكي يفرض وصايته وتوجيهه، وإنما للإسهام، بتواضع، في إضاءة الرؤية والرفع من جودة مضامين شعاراتها كي تكون قابلة لإحداث التغيير الحقيقي في البلاد وتفادي السقوط في العدمية الرخيصة. وبهذه الجهة، يصبح المثقف جزءاً لا يتجزأ من هذه الحركة. - سؤال الجامعة أضحى منذ كانط، في كتابه «صراع الكليات»، وصولا إلى هايدغر، سؤالا يشرع للدور المحوري للجامعة في النسيج المجتمعي، كيف يمكن للجامعة المغربية أن تنتقل من موقع الانفعال بقيم المجتمع إلى موقع الفعل فيه؟ ما أثار استغرابي في هذا الحراك الشبابي أنه لم يخرج من رحاب الجامعة، التي عودتنا على أن تكون في الطليعة حتى في زمن أوفقير والبصري، مما يدل على أنها تعاني من أزمة عميقة وشاملة، هي انعكاس للأزمة التي تعاني منها البلاد ككل. لم تعد الجامعة هي الحاضن المعرفي للحركات الاحتجاجية، بل عوضتها وسائل التواصل، الاجتماعية والمعرفية المعاصرة، مما يدل على أن التاريخ يتحرك. لم تعد الجامعة تحتل الصفوف الأمامية في صناعة التاريخ المغربي، بعد أن تم إنهاكها بشتى صنوف القيود و«الإصلاحات» الركيكة، فلم تعد قادرة على أداء رسالتها العلمية والروحية. لم تعد الجامعة أداة تعبئة وجرأة، بل صارت فضاء للتراخي والتخاذل والانتظار. هناك شعور عامّ بالتخلي عن الجامعة المغربية، باعتبارها عقلَ الأمة وروحها ووجدانها العميق، الساري في كيان الدولة. والتخلي عن الجامعة هو الوجه الآخر للتخلي عن المغرب ككل. لا يمكن بناء جامعة مغربية حقيقية، قادرة على التحدي العلمي والفني والتقني، إن لم تكن نابعة من إيمان بالوطن القوي. لم يعد العلم، من حيث هو مخاطرة وجودية، هو جوهر الجامعة، لم تعد الجامعة منوطة بتكوين قادة الشعب وحُماته، بل فوضت هذه المهام الجليلة وغير القابلة للتفويض للجامعات الأجنبية. المفارقة الغريبة هي أنه تم تحطيم الجامعة المغربية عن طريق «الإصلاحات»، لأنها كانت خاضعة للأجندات السياسية وليس للمقاييس الأكاديمية وللحاجيات المصيرية. هكذا، ضيّعت الجامعة تقاليدها الأكاديمية والإستراتيجية لتصبح مجرد وعاء فارغ بلا روح. قد يكون السبب في هذا المصير المحزن هو وجود ما يشبه «المخزن» داخل دواليب الوزارات الوصية على الجامعة. لقد انتبه السياسيون والشباب إلى آفة «المخزن» في الدولة فندّدوا به، لكنْ لا أحد نسمعه يندد ب»مخزن» الجامعة، الذي يعيث فيها فساداً ويضرب بمكتسباتها عرض الحائط. نسمع عن أموال طائلة تُصرَف، ولكنْ لا نلمس لها آثارا إيجابية تَدفع بالمنافسة في البحث العلمي إلى الأمام. بناية الجامعة في لشبونة (البرتغال) أو في مدريد أو في القاهرة معالم تاريخية وجمالية تسُرّ الناظرين، بنايات الجامعة في المغرب خرائب، إلا ما رحم ربك... - كانت الحاجة إلى الفلسفة، دوماً، موضوع مساءلة في تاريخ العقل البشري، يطرح السؤال نفسه اليوم في خضمّ الثورة الرقمية، التي قلبت مفاهيم كانت، إلى حد قريب، إطارا نظريا لفهم حركية الواقع، حيث أصبح العالم الافتراضي «يفعل» في العالم المادي، كيف تستطيع الفلسفة مواكبة هذه المعادلة الجديدة؟ إذا سلّمنا بأن قوة الفلسفة الداخلية تلخّصها كلمات ثلاث هي: التفكير والتساؤل والنقد، فيمكن القول إننا نعيش اليوم لحظة فلسفية تكاد تكون سقراطية بامتياز، حيث تمارَس الفلسفة يوميا بحرية، سواء في الشارع الواقعي أو في «الشارع» الافتراضي للأنترنت، خصوصا إذا علمنا أن شباب «فيسبوك» وما يليه ينشغلون بالقضايا الكبرى التي تهُمّ كيان الأمة، السياسي ومصيرها، المستقبلي، ولذلك لا نستغرب أن يهبّ دهاقنة السياسة وشيوخ الإيديولوجيا لانتقاد هؤلاء الشبان، غيرة منهم، لأنهم شعروا بأنهم غير قادرين، بحكم عقلهم التقليدي، على إدراك أن الزمن تبدّل بزمن جديد، وأن نمط الحياة تبدَّل بنمط آخر. لقد ولّى زمن «المرجعية»، زمن الانفراد بالسطلة على المجال العمومي، وتشكيل رأيه رغما عنه. لقد أخذ هؤلاء الشبان زمام أنفسهم، في غفلة منهم، فمارسوا حقهم في السياسة من دون استئذان منهم. فاجأ العالم العربي العالمَ كلَّه بقدرته على استثمار الثورة الرقمية (الويب، الهاتف المحمول، الفضائيات، التصوير الرقمي) في مجال تحريك قضايا العدالة والديمقراطية والحرية. فأضحى «العقل الرقمي -الصوري»، لأول مرة، على يد العرب فعالا في التاريخ، بطريقة سلمية وحضارية، حيث أسقط أنظمة، وهو على درب إسقاط أو وتغيير أنظمة أخرى... وما كان للشباب العربي أن يفعلوا ذلك لولا تحرير الثورة التكنولوجية الجديدة الإعلامَ والاتصالَ والمعرفة َمن وصاية الدول ومن احتكارها، فصارت المعارف والمعلومات قوة سياسية قادرة على التغيير، بل صارت أساسا لبناء مشروعية جديدة للفعل السياسي. لم يعد الفعل السياسي لدى هؤلاء الشباب يتطلب مجهودا نضاليا مرهقا أو انتماء صلبا إلى حزب أو إلى إيديولوجيا أو ثقافة، وإنما إبحارا حرا طليقا في شبكة مفتوحة، تتكون من مدونات (بلوغات) ودردشات ومواقع حوارية لا متناهية. ولأن الثورة المعلوماتية والإعلامية قائمة على العدد والضوء، أصبح التواصل مباشرا وفوريا وسريعا، بل وآنيا، مما ضيّق الهوة بين النظرية والتطبيق، بين شعار التغيير وإنجازه. هكذا صار الفرد المنتمي إلى الجماعة «الفيسبوكية» فاعلا سياسيا عن بُعد، قادرا على التأثير على الجمهور بسرعة ونجاعة. يتعلق الأمر، اليوم، بإنسان جديد شبيه بالإنسان «البرزخي»، الذي يوجد بين الواقع والإمكان، هو «الإنسان الرقمي». وتكمن قوة هذا الإنسان في أنه شفاف، لا أسرار له، ظاهره كباطنه، غير مطالَب بالانحياز إلى موقف أو عقيدة مسبقة. وحتى إذا انحاز إلى حقوق الإنسان، فإنه يفعل ذلك بانفتاح شامل على كل المطالب الجديدة.