لا نعتقد أن التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق مصالحة بين «حماس» وعباس سوف يكون نهاية الشوط، بل هو البداية في مشهد فلسطيني جديد، وربما لن تكون الطرق سالكة فيه لاتفاق نهائي يمنع تجدد الخلاف. كانت «حماس» دائما ترفض التوقيع على ورقة المصالحة المصرية زمن مبارك، واختلف الوضع في القاهرة الآن، وصارت السياسة المصرية على صلة تقارب مع «حماس»، وربما بقدر أكبر من التفاهم مع عباس، ولعب التغير في سياسة القاهرة دوره، فقد أغرى «حماس» بالتجاوب أكثر وعزز موقفها في كسب معركة التفاهمات الداخلية التي رغبت في إضافتها إلى الورقة الأصلية. وبعد التوقيع بالأحرف الأولى، سوف يكون خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي ل»حماس»، في ضيافة القاهرة بدعوة رسمية وتماما كما يجري التعامل مع الرئيس محمود عباس بصفته البروتوكولية الرسمية. وصحيح أن الاتجاه إلى مصالحة يثير ارتياحا بين الفلسطينيين، ويثير ارتياحا في دوائر القاهرة الرسمية، ويستثير بالمقابل غضبا وسخطا إسرائيليا عارما، كرر معه بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، تحذيراته القاطعة لعباس وتخييره بين السلام مع إسرائيل أو السلام مع «حماس»، وردت سلطة عباس هذه المرة بصورة أفضل وخيرت نتنياهو بدوره بين السلام أو الاستيطان، ودون أن تدافع بقوة عن اتفاقها المبدئي مع «حماس»، فلا تزال الشياطين في التفاصيل، وليس مؤكدا أن عباس سيكون قادرا على دفع الفواتير، وإطلاق سراح معتقلي «حماس»، وتشكيل حكومة موحدة ترضى عنها «حماس»، وإعادة بناء منظمة التحرير، وحل معضلة تشكيل الأجهزة الأمنية، وتفعيل المجلس التشريعي بأغلبيته «الحماسية»، وتحديد مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية. والمعنى ظاهر، فقد لا تكون من مشكلة في ترتيبات التوقيع النهائي، وبحضور مشعل وعباس، وفي معية قادة أو ممثلي كافة الفصائل الفلسطينية، فثمة ارتياح فلسطيني عام لدور القاهرة الرسمية هذه الأيام، وإن بدا الارتياح أقل لدى عباس ورجاله، فقد سقط حليفهم مبارك، وتجري محاكمته على جرائم وسرقات وخطايا وخيانات، بينها ما جرى في قضية تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، ولم يعد بوسع عباس أن ينادم صديقه وراعيه المحبوس والذي كان يوفر غطاء مصريا سابغا لالتحاق عباس بأولويات إسرائيل وعلى حساب الأولويات والمصالح الفلسطينية الوطنية، ثم إنه لم يعد بوسعه، أي عباس، صب جام غضبه على إيران وعلى دعمها ل«حماس»، فالقاهرة ذاتها تسعى إلى توازن ما في سياستها الإقليمية، تتخفف به من عبء العلاقة مع إسرائيل وتمد جسور تفاهم حذرة إلى طهران، وهو تغير ملموس في البيئة الإقليمية، يضعف مكانة عباس ويدفعه إلى مناورة تعويم نفسه سياسيا والإيحاء باتفاق مع «حماس»، تبقى تفاصيله معلقة وقيد النقاش الذي لا ينتهي ويقبل التفجير مجددا، وبصورة تتيح له المساومة اللاحقة على العودة إلى أحضان إسرائيل، وبشروط ترفع ثمن الاحتياج الإسرائيلي إليه، مع تجنب الوصول إلى نقطة صدام لا يريدها مع رغبات نتنياهو. وعلى جانب «حماس»، تبدو المكاسب ظاهرة، فقد بدت راغبة في إنهاء الانقسام، ودون التضحية بشروطها وتحفظاتها، وأدخلت عباس في حقل الألغام وألقت بالكرة الملتهبة في حجره وحصلت على رضى القاهرة الرسمية، وبما يفيد في تخفيف الحصار عن غزة وفي كسب حليف سياسي يقيد قوة النيران الإسرائيلية في غزة ويحد من تغول سلطة عباس في الضفة الغربية ويتيح مجالات حركة ظاهرة ل«حماس» وأنصارها، وبما يدعم تفاهم الحماسيين مع قطاعات راديكالية من حركة «فتح» والفصائل الأخرى ويضع سلطة عباس وحدها في مواجهة المأزق الإسرائيلي ويحملها مسؤولية استمرار الانقسام حال عجزها المتوقع عن الوفاء باستحقاقات المصالحة. وبعيدا عن دواعي الكسب والخسارة الوقتية لعباس أو ل«حماس»، يبدو الاتفاق أقرب إلى تنظيم تقاسم السلطة السياسية والأمنية، ودون التقدم بخطوة حاسمة لحل المأزق الفلسطيني، فليست قصة السلطة هي الموضوع ذو الأولوية، ولا تنظيم انتخابات جديدة يحل المشكلة الفلسطينية، ولا معنى بالمرة لحديث عن تنظيم سلطة في وطن لم يتحرر بعد، والأولوية بالبداهة لقضية تحرير الأرض، ولا تحرير بغير مقاومة جماهيرية أو مسلحة، أو بهما معا، فهل يساعد اتفاق المصالحة على فتح الطريق لإحياء المقاومة؟ هذه هي القضية الأصلية والتي يقاس إليها كل جهد سياسي أو دبلوماسي يبذل، ولا تبدو ذات أولوية على موائد المصالحة، ورغم وجود نصوص كلاسيكية أقرب إلى رفع العتب، وإلى توافقات رخوة لا إلى تصميم تصور فعال قادر على إنجاز حقيقي، وتعبئة جهد وطني جامع لإحياء مقاومة، ليست للقضية الفلسطينية حياة بدون إعلاء رايتها، فهب مثلا أن حكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط تشكلت ولم يعد من وجود لثنائية السلطة في غزة ورام الله، فهل يعني ذلك شيئا أكبر من تهدئة الخواطر الفلسطينية؟ وهل تهدئة الخواطر هي المطلوبة أم استثارة الخواطر وحفز الوعي باتجاه فعل ما؟ والفعل الفلسطيني المطلوب له عنوان واحد في هذه المرحلة، وهو استكمال تحرير غزة مع انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة والقدس، وهو ما يتطلب أمورا لا يبدو عباس راغبا فيها، ولا تبدو «حماس» مستعدة لتحمل أعبائها بالكامل، فليس المطلوب تشكيل حكومة وحدة وطنية، بل تشكيل مجلس وطني جامع يدير ويدعم عملية المقاومة الشاملة في فلسطينالمحتلة، والتضحية بالمكاسب السلطوية الصغيرة، فليست القضية الآن في من يحكم الفلسطينيين بل القضية في من يحرر فلسطين، وفي سياق العصر العربي الراهن، وبالدراما الهائلة في حركة جماهيره، تبدو الانتفاضة الجماهيرية الفلسطينية السلمية هي الحل، وبشعار واحد يعلو كل ما عداه، وهو «الشعب يريد إنهاء الاحتلال»، فبدون تغير جوهري في موازين القوى على الأرض، سنظل نلف وندور في تحركات لا معنى لها، وفي تعليق الرجاء على ما لا رجاء فيه، وفي افتعال قصص يتوزع الرأي فيها، وفي الحديث عن الدولة الفلسطينية كأنها العنقاء والخل الوفي، فدولة فلسطين لا تقوم بقرارات الأممالمتحدة بل بقرار الفلسطينيين أولا، وبالتصالح مع فلسطين لا مجرد التصالح بين الفصائل، وفي حشد الجهد كله لمعركة تحرير ممكنة الآن أكثر من أي وقت مضى.