لا يمكن لأي صحافي أو ديمقراطي أو مواطن في مغرب القرن الواحد والعشرين أن يتقبل اعتقال مدير جريدة أو صحافي لمجرد ما نشره، ولا يمكن للهيئات النقابية والمهنية والإعلامية أن تسلم بما يحدث للزميل رشيد نيني، مدير يومية «المساء»، ولاسيما أنه ظل، إلى حد إشعار آخر، رجل قلم وأفكار، مهما اختلفنا معها ومهما كانت قاسية في نقدها أو في هجومها. لقد وضعنا القرار القضائي مجددا أمام حيرة، وفي موقف لا يمكن أن نعتبر فيه أن المراد فعلا هو حماية البلاد وهيئاتها الأمنية من صفحات منشورة وتحقيق مكتوب. أشياء كثيرة يكتبها رشيد نيني لا يتفق معها الجميع، وأشياء كثيرة ينشرها يقول إنه حصل عليها من مصادرها، ولطالما كتب دفاعا عن حماية مصادره السامية التي تزوده بالمعطيات. وهو لم يخف ذلك، ولم يتبرأ منه. الأشياء واضحة تماما، ولهذا عندما يكتب فهو يقوم بشيء يريد كل صحافي أن يقوم به، الحصول على المعلومة الجديدة، القوية ونشرها، والتوجه إلى آخر منطقة من الحدود المرسومة. هل يتابع رشيد «نينيكيليكس»، مثل ديسانج، لأنه أزعج؟ ليكن لدينا صحافيون مزعجون وخارجون عن المألوف، حتى ولو أخطؤوا في حقنا أحيانا. ليكن لدينا صحافيون قادرون على خلق الحدث وعلى الإزعاج بما يكفي، لكي نضع الحقيقة على محك الحياة العامة الوطنية. وليكن لدينا صحافيون لا يدخلون السجون فقط، لأنهم كتبوا أو لأنهم كانوا وقحين في الحديث عن الشخصيات العامة. إن المخابرات ورجالها في العالم كله يحظون أولا بالتقدير والاحترام نظرا إلى أدوارهم في حماية بلادهم، ويحظون ثانيا بوضع اعتباري خاص، يتركهم في منأى عن ملابسات الحياة العامة وعن منازعاتها. وحياتهم تكون قريبة من البطولة بفضل الرعاية الدائمة لأمن البلاد والمواطنين، وبفضل تجردهم وانكبابهم على ما يخدم البلاد. لعل الدول الناجحة هي التي يحصل فيها التصالح بين المواطنين وأجهزتها كيفما كانت. هذه الحقيقة لا بد لنا أن نقولها لبعضنا ونقولها للصحافيين أولا وقبل كل شيء. لكن وبكل بصدق، لا أفهم شخصيا كيف يمكن لتحقيق صحفي أن يهدد المؤسسات الأمنية ويهدد السلطة الأمنية للبلاد، فإما أنه يقول الحق، وهذا يتطلب أن نعالج ما جاء فيه، أو أنه لا يقول الحق ويبالغ، وهذا يكون الرد عليه بالبيان والتبيين وتنظيم اللقاءات مع الصحافيين المعنيين، وبعدها الصحافيين الآخرين. ولم لا تنظيم زيارات ميدانية إلى حيث توجد «الضبرة». بل حتى المتابعة ضمن الشروط التي لا بد منها للعدل، واردة. غير أن المغرب اليوم ليس في حاجة إلى اعتقال الصحافيين أو اعتقال أهل الرأي. المغرب اليوم يتوجه إلى المستقبل، والمستقبل لا يمكن أن ننظر إليه من مربع زنزانة صغيرة مفتوحة على المجهول. والمغرب اليوم يحصل شيئا فشيئا على المناعة من التهويل والترويع. ولا يمكن أن تظل الصحافة هي «الجدار القصير» الذي نقفز عليه. لا أحد يقرأ البلاغ الصادر عن الوكيل العام ولا يتساءل: كيف يمكن أن نتابع الخروج عن النص لمدة سبع سنوات ونتحرك من بعد؟ وكيف يمكن أن نصدق أن الأشياء تهاوت بهذا الشكل؟ لقد تحدث رشيد عن المخابرات المغربية؟ إذن، لنتحدث عنها أيضا، واليوم هناك مسعى إلى جعلها تحت الأضواء بما يفيد رقي المغرب على ساحة الحريات ودولة المؤسسات. ولعل الشيء الرئيسي في توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ودسترتها يكمن بالضبط في إعادة صياغة القرار الأمني وعمل المؤسسات الاستخباراتية والأمنية ضمن المفهوم الجديد للدولة. ومن هنا، لا نرى ضررا في الحديث عن أعمال المخابرات. وأعتقد أن الهيئات الحقوقية والسياسية والإعلامية معنية بهذا النقاش اليوم، حتى يظل سليما ومعافى.. رشيد نيني ليس فوق القانون، ولا بد من تطبيق كل مقتضيات القانون في حقه إن أخطأ ولجأ المتضررون إلى القضاء، وليس من مصلحتنا التعامل معه على أساس استثنائي. فقد رأينا كيف تمت جرجرة غريمه عبد المنعم دلمي إلى أقسام الشرطة، ورأينا أيضا كيف سبقه إلى المخافر أعضاء في فيدرالية الناشرين. وكأن هناك رسالة تقول إنه لا أحد يمكنه أن يفلت من ال...عذاب! أو يعتبر نفسه قادرا على أن يستفيد من دولة القانون. لا، ليس قرارا حكيما اعتقال رشيد نيني، ولا قرارا منتجا، ولا قرارا يتماشى مع المرحلة. النقابة كانت على صواب عندما وقفت الموقف المبدئي، والمنظمات الحقوقية كانت على حق بالرغم من كل ما قيل عنها وعن عنادها الحقوقي. والوسيط كان على حق عندما اعتبر أن الاعتقال لا يمكنه إلا أن يدفعنا إلى التضامن، لأنه ضد الصحافة، وأيضا كل الزملاء الذين اعتبروا أن البلاغ الصادر عن الوكيل العام للملك يحمل التشهير والإدانة المسبقة والتكييف النهائي. هل نجح رشيد نيني في رص كل الناس ضده؟ طبعا، وأحيانا عن خطأ وعن تسرع، ولا يمكن أن يتهمنا أحد بأننا نواليه في الخطأ، فقد أخطأ في حق قادة الاتحاد، من اليوسفي إلى اليازغي، وعبد الواحد الراضي والكثير من الاتحاديين أصيبوا عن خطأ. لكن هل هذا يعني أن علينا أن نعلقه في مشنقة عامة؟ ونعلن أن موسم الاحتراق قريب؟ لا أعتقد ذلك. ولا أعتقد أن الموقف المبدئي يمكن أن يظل رهينة للحسابات الشخصية أو الموقف الشخصي. هنا يكمن الفرق بين المبدئي والعابر، بين الثابت والمتحول. ويمكننا أن نعتز بأنه ما زال بيننا من يقول للخطأ كفى، حتى ولو كان في صالحه، سياسيا ومهنيا وتجاريا...! وسؤال آخر هو «هل نجح نيني في رص الناس إلى جانبه في هذه القضية؟ أيضا نقول بالإيجاب! أشياء كثيرة ناقشناها في إدارة التحرير حول الموضوع، ورأينا أن الالتباس أكثر بكثير من الوضوح في القضية، حتى ولو كان المتهم لا يحسب سوى الأعداء في الساحة العامة. نحن اليوم على مرمى حجر من تحول كبير في البلاد، ولا يمكن أن نضع أي حجر عثرة في الطريق. والمطلوب اليوم، كما تريد الإرادة السامية لملك البلاد، هو الخروج من الالتباس ومن الوضع الحالي والإسراع بوضع القانون الجديد للصحافة في الساحة العمومية. وقتها سنكون جميعا سواسية أمام القانون وأمام ظروف تطبيقه. إن الدفاع عن مبدأ الحرية كل لا يتجزأ، ولاسيما في وضع مثل وضعنا.. اليوم. لا يمكن ألا يربط الرأي العام، الحزبي والسياسي والإعلامي والحقوقي، بين الاعتقال وبين «اللعب مع الكبار»، بين صك الاتهام وبين الأسماء، كل الأسماء التي وردت في كتابات نيني، ولهذا السبب يمكن أن يشك الرأي العام، وعلينا أن نطمئنه بأننا لا نعتقل الناس فقط لأنهم مسوا رجلا أو رجلين من الدولة. لقد تبين كم كان صدر الأحزاب وزعمائها واسعا، وهي تتلقى الضربات والنبال حتى الخاطئة منها، ولم يلجأ أحد إلى القضاء أو المتابعة. فتلك هي طريقة الديمقراطية في الأحزاب على التربية الديمقراطية والعمل الناضج. ولنا في موقف محمد اليازغي الكثير من الدروس، فبالرغم من كل السهام التي تلقاها من رشيد بالذات، وبالرغم من كونه في الحكومة التي قررت، عن طريق النيابة العامة ووزارة العدل، متابعة رشيد نيني، فإنه وقف الموقف المبدئي الذي لا بد منه. ولنا بقية.