في الطريق إلى القمة، وتحت وطأة الرغبة المُميتة في الصعود السريع، ننسى -أو نتناسى- حقيقةً مهمة وهي أن لكل شيء في الحياة كُلفة أو ضريبة لا بد أن ندفعها.. تلك الضريبة التي قد تُودي بحياتنا كلما حاولنا الوصول إلى السلطة، فضريبة السلطة قد تكون حياتَنا التي قد نفقدها فجأة ودون سابق إنذار.. تلك السلطة التي قد تتراءى للكثيرين حلاوتُها.. نساء وُلدن في أوساط فقيرة وذُقن شظف العيش ومرارات الحاجة.. اجتاحتْهُنّ رغبة كبيرة ومميتة في الانخراط -بأي ثمن- في كواليس الحُكم ودهاليز السلطة، أملا في قفزة كبرى في ما بعدُ قد تُوصلهُنّ إلى القمة، من خلال ارتباط بحاكم أو الفوز بمنصب سياسيّ كبير.. ملكاتٍ كنّ أو أميرات أو فنانات أو عشيقات أو نساءً عادياتٍ قرّرن «القفز» على العادات والتقاليد والمُضيَّ في الحياة كما تحلو لهن.. نساء ونساء تكبّدن «ضريبة» البحث عن السلطة والاقتراب منها أو التعرُّض لها.. إنهنّ نساء قتلتْهُنَّ السلطة!... لا تزال الأسئلة مطروحة حتى الآن في الساحة المصرية والعربية، وربما الإسرائيلية، عن هوية تلك المرأة اليهودية التي اخترقت المجتمع اليهودي والعربي، فبلغت القمة وأضحت الملكة غير المتوجة لعرش مصر، بعد دخولها قصور الحكم وارتباطها بعلاقات عاطفية مع الملك فاروق، آخر ملوك مصر، ومع عدد من كبار رجالات المجتمع المصري، من الفنانين والسياسيين في ذلك الوقت، قبل أن يرتبط اسمها بقصص وحكايات واتهامات العمالة (لإسرائيل) والتخابر لصالح أجهزتها المخابراتية... اليهودية كوهين هي ليليان كوهين اليهودية، التي تم تسجيل ولادتها في القنصلية اليونانية في الإسكندرية بتاريخ 12 دجنبر 1929 من طرف والدها اليهودي اليوناني، فيكتور كوهين، الذي كان يعمل سمسارا في البورصة في الإسكندرية وأمها أولغا، المسيحية اليونانية التي عمدت إلى ترك بيت الزوجية لتستقر في الإسكندرية وتعمد إلى تنصير ابنتها ليليان، دون معرفة والدها كوهين، الذي هجر البيت في اتجاه اليونان... «نجمة» مصر الجديدة عندما بلغت ليليان السادسة عشرة من عمرها، عمدت أمها إلى إخراجها من المدرسة لتُلحقها بوظيفة من الوظائف في الإسكندرية، فبدأت العمل في مطعم «البرج بلوي»، ذي الإطلالة الرائعة على البحر الأبيض قبل أن تتعرف عن طريق الصدفة على المخرج المصري المعروف احمد سالم (زير النساء آنذاك) ويعجب بها ويضرب لها موعدا في فندق «وندسور» الشهير في الإسكندرية، لمناقشة تفاصيل العمل في السينما.. كانت ليليان، ابنة السادسة عشرة، ذات أنوثة طاغية وتمتلك من الأنوثة والجمال ما يعجز معه أي رجل عن عدم التعلق بها... لم يتفق أحمد سالم مع ليليان على شروط العقد وطبيعة العمل (كان سالم يريد فقط إغراءها للنيل منها) خاصة أمام شروطه التعجيزية، من جهة، وأمام رفض والدتها «أولغان»، من جهة أخرى، العمل مع هذا الشخص لسمعته السيئة وعلاقته آنذاك بالمطربة أسمهان، لكن سرعان ما تعرفت ليليان على الثري سيد اللوزي، صاحب مصانع الحرير في القاهرة، الذي فتح أمامها حياة الترف والبذخ لتُلفت إليها الأنظار (في النادي المصري الذي كانا يرتادانه دائما) لجمالها الصارخ، وهي تتأبط ذراع اللوزي... سيدة القصر في احدي الليالي الصاخبة، كان أنطوان بولي، سكرتير الملك فاروق الخاص، يتردّد على ذلك النادي لاكتشاف السيدات الجميلات واصطحابهن إلى القصر، حيث الملك فاروق.. وعندما وقعت عيناه على ليليان، انبهر بها وعرض عليها العمل في السينما وبعث بها إلى الفنان الشهير يوسف وهبي، طالبا منه إسناد دور البطولة لها في أي فيلم، على أن يتحمل القصر مصاريف الدعاية اللازمة في الصحف... اهتم يوسف وهبي بليليان واختار لها اسما فنيا هو «كاميليا»، بعد أن اسند إليها بطولة فيلم «القناع الأحمر» في مطلع العام 1947، والذي دخلت من خلاله إلى قلب الملك فاروق، بعد رقصتها العارية أمامه في ملهى «الأهرام»، قبل أن يصطحبها معه على متن سيارته الحمراء إلى قصر عابدين، مخترقة بذلك حرسه الحديدي لتجد نفسها بين الملك فاروق ورجالاته المقربين، يوسف رشاد ومصطفى كمال صدقي وإلياس أندراوس ومحمد حسن وغيرهم... شرعت كاميليا في وضع خطتها للسيطرة على الملك فاروق، فطلبت منه السفر في رحلة بحرية إلى قبرص، بعيدا عن العيون، خاصة بعد تواتر الشائعات والأقاويل عن علاقتهما، بعد أن كان قد اشترى لها فيلا فاخرة في الجزيرة، تحت اسم «أولغا كوهين»، لكن الصحف الإنجليزية والفرنسية اكتشفت السر، وحينما علم فاروق بذلك، أعطى أوامره لليخت «فخر البحار» لمغادرة الجزيرة إلى جزيرة رودوس وترك كاميليا في فيلا كوهن في قبرص... كاميليا والوكالة اليهودية لم يكن الملك فاروق يعلم أن برقية كاميليا إليه في البحر: «إما أن تعود إلى قبرص أو أنتحر».. قد وقعت بين يدي الوكالة اليهودية في القدس، والتي سارعت إلى الاتصال بكاميليا وتجنيدها للعمل لصالح إسرائيل، فسارع جيمس زارب، رئيس جهاز المخابرات في المركز الرئيسي للوكالة اليهودية في جنيف إلى الاتصال بمدرب الرقص الشرقي إيزاك ديكسوم وبمدير معمل أفلام أنور وجدي، لويس كازيس، لترتيب مقابلة مع كاميليا، لتجنيدها للعمل لحساب إسرائيل!... الزواج العرفي بالملك فاروق بدأت كاميليا أول مهامها في تزويد الوكالة اليهودية بسير العمليات القتالية في فلسطين، من خلال ما تحصل عليه من معلومات من الملك فاروق نفسه.. وبعد عمليات التجسس على الملك فاروق، تأخذ مجراها أولا بأول... لكنْ، مع بدايات العام 1949، وصل إلى علم كاميليا (عن طريق الوكالة اليهودية) خبر مفاده أن الملكة نازلي (والدة فاروق) تحضر لزواج ابنها الملك فاروق من ناريمان صادق (ابنة حسين فهمي صادق، وكيل وزارة المواصلات) في نهاية العام 1950.. فأصيبت كاميليا بالصدمة وعرضت على الملك فاروق الزواج العرفي، بعد أن قامت بتغيير ديانتها اليهودية إلى المسيحية، بصفة رسمية، في كنيسة سان جوزيف في القاهرة، لتصبح بذلك ملكة غير متوجة، على أن يتم الإعلان عن زواجهما في حالة أنجبت له وليا للعهد... وبينما كان القصر الملكي يستعد للزواج الرسمي بين الملك فاروق وناريمان صادق، اتفق الملك مع كاميليا على إتمام الزواج العرفي في فرنسا، فطار مسرعا إلى «دوفيل»، طالبا من كاميليا اللحاق به بعد ذلك، ففهمت حينها أن خطتها مع الملك قد نجحت... ضحية القصر لكنْ، وعلى الجانب الآخر، كانت عيون مجموعة الحرس الحديدي في القصر ترقب تحركات كاميليا وتحركات الملك الأخيرة، بكل حنكة، محاولين في نفس الوقت إبعاد كاميليا عن الملك، وبأي ثمن، خوفا على العرش... وبينما كانت كاميليا تستعد للسفر للحاق بالملك فاروق الذي ينتظرها في فندق «دوفيل» لإتمام الزواج العرفي، كانت أيادي الحرس الحديدي قد زرعت قنبلة في حقيبتها، بعد أن حجزت مقعدا في رحلة «نجمة ميريلاند»، رقم 903 من مطار القاهرة الدولي والمتوجهة إلى روما (محطتها الأولى) ثم إلى فرنسا، حيث يوجد الملك فاروق... كانت كاميليا ترتدي فستانا فستقي اللون وحذاء ساتان أخضر (الألوان التي يحبها الملك فاروق).. وكانت قد طلبت حينها التقاط صور لها قبل ركوب الطائرة، تداعب المودعين بابتسامة رسمت على محياها دون أن تعلم ماذا يخفي لها القدر في رحلة الموت رفقة 48 راكبا كانوا إلى جانبها على متن الطائرة... بعد نصف ساعة فقط من إقلاع الطائرة من مطار القاهرة، اندلعت النيران فجأة فوق بلدة «الدلنجات» في محافظة «البحيرة» المصرية، ليشتعل المحرك وتهوي الطائرة من السماء ككتلة لهب مشتعلة، لتنتهي حياة كاميليا ومشوارها في الوصول إلى السلطة، بعد أن تربعت على عرش السينما المصرية وحققت لنفسها (بالأبيض والأسود) تراثا سينمائيا بدأته بفيلم «القناع الأحمر»، مع فاتن حمامة، و«الروح والجسد»، مع شادية وكمال الشناوي، و«القاتلة»، مع فريد شوقي وكمال الشناوي، و«امرأة من نار»، مع رشدي أباظة، و«المليونير»، مع إسماعيل ياسين، و«آخر كذبة» و«الطريق إلى القاهرة»، مع سامية جمال وفريد الأطرش، لينتهي بالطريق إلى الزواج العرفي من الملك فاروق والمخابرات الإسرائيلية والحرس الحديدي... كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في المغرب