النهاية المزرية التي انتهى إليها حكم الأنظمة الديكتاتورية العربية في أكثر من دولة عربية بفضل الثورات الشعبية المباركة ستجعل من الصعب على أي ديكتاتور قادم، أو راهن، الاستمتاع بالحكم بالطرق التقليدية المتعارف عليها، مثل سرقة المال العام، والاستعانة بالبطانة الفاسدة، والاعتماد على تغول الأجهزة الأمنية، ومصادرة الحريات. نشعر بمعاناة السيدة سوزان مبارك حرم الرئيس المصري المخلوع، ولكن لا نتعاطف معها، وهي تتنقل بين مستشفى شرم الشيخ، حيث يخضع زوجها للتحقيق حول أمواله وتجاوزاته، وبين نجليها اللذين يقبعان حاليا في زنزانة عادية جدا في سجن طرة، حيث لا مكيفات، ولا تلفزيون، ولا صحف، فقط مروحة بدائية معلقة في السقف. المليارات مجمدة في البنوك الأوروبية، وحتى ما جرى تهريبه منها في الربع ساعة الأخير من عمر الحكم من الصعب الوصول إليها، وكيف يتأتى ذلك وأصحابها خلف القضبان يواجهون اتهامات بالسلب والنهب وسرقة المال العام، وفوق كل هذا وذاك التواطؤ في عمليات قتل أكثر من مائتي شاب من ثوار ميدان التحرير وباقي المدن المصرية الأخرى. إمبراطورية الرعب والفساد المصرية انهارت مثل بيت العنكبوت، وجاءت الضربة القاصمة بصدور قرار المحكمة بحل الحزب الحاكم (الحزب الوطني) ومصادرة جميع أصوله وممتلكاته، وإغلاق فروعه في مختلف أنحاء مصر، بعد اعتقال معظم قياداته ورموزه بتهم متعددة وعلى رأسهم احمد عز وصفوت الشريف. الثورة الشبابية المصرية، ووعي قادتها كانا خلف هذه الانجازات جميعا، من خلال الضغط بسلاح التظاهر على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، للتسريع بمحاكمة كل رموز الفساد والديكتاتورية، أمام محاكم مدنية عادلة. ولعل حال العقيد الليبي معمر القذافي وأسرته أكثر سوءا من الرئيس حسني مبارك وأسرته، فرغم حكمه الذي امتد أكثر من أربعين عاما، والمليارات التي أنفقها في إفريقيا وأنحاء عديدة من العالم لتلميع صورته، ونظامه الدموي، لم يجد صديقا واحدا يدافع عنه، والأهم من ذلك أن الغالبية الساحقة من شعبه الذي تطاول عليه، بألفاظ نابية لا تليق حتى بأولاد الشوارع (مثل نعتهم بالجرذان والمقملين) تطالب بمحاكمته بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، بالنظر إلى قتله الآلاف في هجومه على مصراتة والزاوية ودرنة وباقي المدن الليبية. العقيد القذافي لا يجد دولة تقبله وأسرته، ورجاله الخلص قفزوا من سفينته الغارقة، وأمواله التي هربها إلى المصارف الأمريكية والأوروبية (أكثر من خمسين مليار دولار) اعتقادا منه أنها في مأمن، باتت مجمدة ولن يرى دولارا واحدا منها، وهي الأموال التي حرم الشعب الليبي منها من اجل أن يصرفها على ملوك إفريقيا وتصابيها. وإذا انتقلنا إلى الرئيس اليمني علي عبد الله صالح فإن أيامه باتت معدودة، وهو يحاول بكل الطرق والوسائل تأمين خروج مشرف له ولإفراد أسرته، والخروج المشرف هنا يعني عدم مطاردته قضائيا من قبل من سيتولون الحكم من بعده بتهم عديدة، أبرزها إطلاق قناصيه النار على المتظاهرين في ميدان التغيير وقتل العشرات منهم. من المؤكد أن الرئيس اليمني سيجد الصحبة الطيبة عندما ينتقل وأفراد أسرته إلى مدينة جدة قريبا، حيث الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وربما ينضم إليه آخرون قريبا، فالولايات المتحدة تبحث حاليا عن مكان لاستضافة الزعيم الليبي الذي قال البيان الثلاثي لقادة العالم الغربي (أوباما وساركوزي وكاميرون) أنه ليس له مكان في الحكم ولا في ليبيا. الرئيس بن علي غادر تونس ومعه ما تيسر من الأموال والذهب، ولكن كيف يصرف هذه الأموال، أو ما لم يجمد منها، وهو سجين قصر فاخر لا يستطيع مغادرته، ويسمع يومياً عن مظاهرات ينظمها أبناء الثورة في تونس أمام السفارات السعودية تطالب بتسليمه لكي يمثل أمام العدالة، لمحاسبته وإعادة أموال الشعب التي في حوزته. لا نعرف إذا كان هؤلاء يشاهدون المحطات الفضائية العربية والأجنبية ويتابعون اللعنات التي تنصب عليهم من أبناء شعوبهم، ولكن ما نعرفه أنهم قطعاً يعيشون حالة من الاكتئاب وانعدام الوزن، بعد أن جرى نزع الملك منهم بطريقة مهينة وغير مسبوقة وسريعة جداً. فالعروش تساقطت وستتساقط أمام تسونامي غضب الشعوب. لا لم ننس سورية، ولا نظامها الديكتاتوري، حيث يصارع الرئيس بشار الأسد بين نصائح حرسه القديم باستمرار التمسك بالأساليب القمعية الدموية لإخماد ثورة القاع المتفجرة، وبين تمنيات الكثيرين الذين يريدون تجاوبه مع مطالب شعبه المشروعة في الإصلاح، وبرز هذا التردد واضحاً في خطابه الذي ألقاه أمام مجلس الوزراء الجديد حيث كرر وعوده السابقة بإنهاء حالة الطوارئ في غضون أسبوع، واعتماد قانون جديد للإعلام. الحديث عن مؤامرات خارجية تستهدف سورية لم يعد يقنع الكثيرين، أو يقلل من عزائم المطالبين بالإصلاح، ولا بد للرئيس بشار هذا الطبيب الرقيق المتعلم في الغرب أن يتساءل بينه وبين نفسه عن حظه العاثر الذي أوقعه في هذه الورطة، فربما كان الخيار الآخر، أي ممارسة طب العيون في لندن، أو حتى أي مدينة سورية أخرى، أكثر أمانا وراحة بال من وراثة حكم شعب من الأسود الغاضبة. الأنظمة الديكتاتورية العربية لم تدمر شعوبها، وتكسر كرامتها، وتنهب ثرواتها، وتقدم نموذجاً في القمع ومصادرة الحريات فحسب، وإنما دمرت نفسها أيضا، وعجلت بنهايتها بطرق مذلة مثل تلك التي نراها في أكثر من عاصمة عربية. البدائل التي تطل برأسها من رحم الثورات الغاضبة ستكون مختلفة حتماً، مختلفة في تعاطيها مع الشعب، لأنه هو الذي اختارها لكي تخدم مصالحه، وتعيد إليه كرامته، وتنهض بمقدراته، وتقوده إلى مستقبل مشرق تتطلع إليه، وتقدم أرواحها من اجل تحقيقه. الشعوب العربية تريد حكماً رشيداً يستند إلى الحريات والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والشفافية والمحاسبة، بعد أن عانت من البطالة والفساد والحكم الأبدي، والورثة الفاسدين. بأي حق يتحدث السيد سيف الإسلام القذافي ويهدد الشعب الليبي بالقتل والضرب بالأحذية، وبأي حق يقود أشقاؤه كتائب تقصف الأبرياء وتروع الأطفال والمدنيين، وبأي حق يتصرف جمال مبارك كإمبراطور يعين الوزراء والسفراء، وبأي حق يتهيأ احمد علي عبد الله صالح لحكم اليمن، وما هي المميزات التي تجعلهم فوق كل أبناء الشعب؟ نجلا الرئيس المصري يجب أن يحمدا الله كثيراً أنهما انتهيا في زنزانة بسجن طرة سيئ الذكر موئل القتلة والمجرمين، فهي تشكل حماية لهما وكل رموز فساد حكم أبيهما من غضبة الشعب، ونتمنى أن يتعلم الزعيم الليبي وأبناؤه من هذه النهاية، ويستوعبوا دروسها قبل فوات الأوان.