التقيت في شقة الشاعر الكبير محمود درويش المتواضعة في العاصمة الأردنية عمان (عام 2003) بمجموعة من السياسيين والمثقفين الفلسطينيين القادمين من الأراضي المحتلة، من بينهم السيد نبيل عمرو، وزير الإعلام السابق، وأحد أقرب المقربين من الرئيس الراحل ياسر عرفات. أحد الحضور انتقد السيد عمرو لأنه تخلى عن الرئيس عرفات، حسب رأيه، وانضم إلى معسكر منافسه في ذلك الوقت، السيد محمود عباس (ابو مازن) الذي «نحت» له الأمريكان والأوروبيون منصب رئيس الوزراء، في خطوة هدفت إلى تقليص صلاحيات الزعيم الفلسطيني، وتجريده من سلاحي الأمن والمال خاصة، بحيث يتحول الى «مختار» أو «واجهة» سياسية فقط دون أي صلاحيات فعلية. السيد عمرو رد على هذا الانتقاد بابتسامة خبيثة، وقال: «إن سفينة عرفات تغرق، ومن الغباء السياسي الغرق معها، ولذلك قررت القفز إلى السفينة الأخرى»، وما الضير في ذلك، إنها قمة الواقعية والذكاء السياسي في الوقت نفسه. السيد عمرو تعرض لمحاولة اغتيال، بعدها عينه الرئيس عباس وزيرا للإعلام «عرفانا وتقديرا» إلى أن اختلف معه أخيرا لأسباب يطول شرحها. تذكرت هذه الواقعة، وأنا أرى المسؤولين الليبيين الأكثر ولاء وقربا للزعيم الليبي معمر القذافي يهربون من سفينته، الواحد تلو الآخر، بحثا عن ملاذ آمن، حتى لو أدى ذلك، مثلما هو حال السيد موسى كوسا وزير الخارجية ورئيس اللجان الشعبية، وجهاز المخابرات سابقا، إلى تعرضهم لملاحقة قانونية في بريطانيا بتهم قتل وتعذيب، وبعض المسؤولية عن تنفيذ جريمة تفجير الطائرة المدنية الأمريكية فوق مقاطعة لوكربي الاسكتلندية، وكأنه يهرب من الرمضاء إلى النار. اللافت أن ثلاثة وزراء خارجية سابقين هم عبد الرحمن شلقم، وعلي عبد السلام التريكي، وثالثهما موسى كوسا استقالوا من مناصبهم في أقل من شهر، والثلاثة يعتبرون من أعمدة النظام وأبرز ركائزه، بل وأشد المتحمسين لخدمته، وتبني سياساته وشرحها إلى العالم بدأب يحسدون عليه، ترى ما هو السر في ذلك؟ الأسباب كثيرة، ولكن هناك عاملا لا يمكن تجاهله أو القفز فوقه، وهو تغول أبناء الزعيم، وممارستهم كل أنواع الإذلال، والاحتقار، لجميع رجالات أبيهم، والعمل بكل الطرق على إبعادهم من دائرة اتخاذ القرار، ومن يجلس مع هؤلاء المستقيلين قبل انشقاقهم أو بعده، يجد أن المرارة من تدخلات سيف الإسلام القذافي على وجه الخصوص في عملهم، إلى درجة إفشال جهودهم، هي القاسم المشترك لمعاناتهم. بينما كنت أتناول طعام الغداء في عاصمة أوروبية مع أحد السفراء الليبيين جاءه، أي السفير، اتصال من قبل أحد أبناء الزعيم الليبي، أبلغه فيه أنه قادم إلى العاصمة بعد أربع ساعات، وعليه تأمين عدة أجنحة في أحد الفنادق الفخمة، ورهط من السيارات الفارهة لاستقباله في المطار وجوقته، فما كان منه، أي السفير، إلا مغادرة المطعم مهرولا بسرعة والقلق والتذمر باديان على وجهه لتنفيذ الأوامر، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور، وقال لي من أين لي أن أتدبر كل ذلك في بضع ساعات وفنادق العاصمة مزدحمة بالنزلاء. السيد شلقم الذي استقال من منصبه كممثل لبلاده في الأممالمتحدة وانضم إلى الثوار، قال إن سيف الإسلام تدخل أكثر من مرة لإفشال جهود ونجاحات دبلوماسية حققها أثناء مفاوضات تعويضات لوكربي، أو نزع أسلحة ليبيا النووية والكيماوية، ليعيد التفاوض بنفسه للحصول على سبق النجاح، وليظهر للعالم الغربي أنه صاحب القرار النهائي باعتباره ولي العهد والرئيس القادم لليبيا. أولياء العهود في الجمهوريات الملكية العربية لعبوا دورا كبيرا في تفجير الثورات العربية الحالية المطالبة بالديمقراطية والحريات، مثلما ساهموا بدور كبير في إطاحة حكم آبائهم بالطريقة المهينة، نتيجة استهتارهم، وغرورهم، وانغماسهم في «البيزنس» وما يتفرع عنه من فساد وصفقات مشبوهة، والتعاطي مع رهط من السماسرة والانتهازيين وقناصي الفرص. لم نفاجأ بالأخبار التي تحدثت عن «شجار» السيد علاء مبارك مع شقيقه جمال، واتهامه له بأن ممارساته وطموحاته في الحكم هي التي أدت إلى هذه النهاية البائسة لوالده وأسرته، فقد تصرف السيد جمال مبارك وكأنه الآمر الناهي، يعين الوزراء ويختار السفراء، ويوزع غنائم الفساد على أصدقائه من رجال الأعمال، وبعض الإعلاميين، الأمر الذي سبب حالة من الاحتقان في الشارع المصري، انفجرت ثورة مباركة، عنوانها ميدان التحرير، أطاحت بإمبراطورية الفساد هذه، وأعادت للشعب المصري، بل والأمة العربية، الكرامة والريادة. الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ظل محبوبا لأكثر من عشرين عاما في أوساط اليمنيين، فقد حقق الوحدة والاستقرار، وسمح بتعددية سياسية محدودة، (هناك من يؤكد أن فضل الوحدة يعود أيضا للسيد علي سالم البيض وزملائه في اليمن الجنوبي وهذا صحيح أيضا) ومجلس نواب منتخب، ولكن مصائبه بدأت تتضخم عندما بدأ يخطط لتوريث الحكم لنجله أحمد، وتوزيع المناصب الأمنية والعسكرية الكبرى على أبناء أشقائه وأصهاره ومعها صفقات «البيزنس» والتوكيلات التجارية، الأمر الذي جعل الكثيرين ينفضون من حوله، وأولهم أخوه غير الشقيق علي محسن الأحمر، وأبناء الشيخ عبد الله الأحمر شيخ مشايخ قبيلة حاشد. فالسادة صادق وحميّر وحميد وحسين عبد الله الأحمر الذين ورثوا أباهم في الزعامة، يمكن أن يقبلوا بالرئيس صالح في قمة الحكم «إلى حين»، ولكنهم من المستحيل أن يقبلوا بنجله، ويعتبرون أنفسهم أحق منه بالرئاسة، وهذا ما يفسر انضمامهم إلى الثوار في ميدان التغيير وسط العاصمة صنعاء وشق عصا الطاعة على الرئيس ابن قبيلتهم. ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الرئيس الراحل صدام حسين، وقع في الخطأ نفسه، عندما أطلق العنان لنجليه قصي وعدي لارتكاب خطايا عديدة ربما بسبب رعونتهما، أو حداثة سنهما، أساءت إليه، وشوهت صورته في أذهان البعض من أبناء شعبه، وذكر لي أحد المقربين جدا من المرحوم قصي، وهو يقيم حاليا لاجئا في لندن، أن من أسباب سقوط بغداد في زمن أقصر من المتوقع وبالحد الأدنى من المقاومة، تعيين قصي قائدا للقوات المكلفة بالدفاع عنها، الأمر الذي جعل العديد من الضباط العسكريين الكبار والمحترفين يفقدون الرغبة في القتال. إذ كيف يخضعون لقيادة شاب صغير غير متمرس عسكريا، وهم الذين خاضوا حربا استمرت ثمان سنوات ضد إيران حفاظا على هوية العراق العربية، وولاءً للرئيس، وانتصروا فيها. ولا ننسى في هذه العجالة التعريج على الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، فقد «تقلصت أخطاؤه في بداية حكمه، وظل لسنوات يعيش في الظل تقريبا مع الحد الأدنى من الفساد والكثير من القمع طبعا، ولم يعرف عنه بذخه، أو ترفه، حتى تزوج من السيدة ليلى بن علي، حيث عاث أشقاؤها، أو بعضهم، في الأرض فسادا، وأكلوا الأخضر واليابس مثل الجراد ونهبوا ثروات البلاد، وباتوا يتطلعون لوراثة الحكم، الأمر الذي سرع بثورة الشعب التونسي، وأعتقد أن الرئيس بن علي كان صادقا عندما قال في خطابه الأخير إن الرسالة وصلت (رسالة الثوار)، واعترف بأنه تعرض للخديعة والتضليل من قبل بطانته الفاسدة، ولكنه اعتراف جاء متأخرا، وفي الوقت والتوقيت الخطأ، ولم يمنع سقوطه وحكمه والنهاية المهينة التي انتهى إليها. ولعل من أبرز المشاكل التي يواجهها الرئيس الشاب بشار الأسد حاليا، الذي يعتبر الوحيد من بين أولياء العهود، الذي نجح في تولي مقاليد الحكم عبر منظومة التوريث، فساد بطانته، أو معظم المقربين منه، وتغول الأجهزة الأمنية، تحت ذريعة مواجهة المؤامرات الخارجية التي تستهدف سورية، وهي موجودة فعلا، ولكن المبالغة في القمع، وإذلال المواطنين، عوامل ساهمت بشكل كبير في تأجيج الشارع السوري، ودفعه لمحاكاة الثورات الأخرى طلبا للإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية. إنها «لعنة التوريث» التي أصابت الأنظمة العربية الديكتاتورية التي اعتقدت لأكثر من ثلاثة عقود أنها محصنة أمام التغيير الديمقراطي بسبب ضخامة أجهزتها الأمنية، ونفاق الإعلام الحكومي الذي ضلل الحاكم، دون أن يخدع المحكومين، بنفاقه، ورموزه المحترفة في هذا المجال بامتياز شديد. وحسنا فعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بإبعاد جميع رؤساء مجالس إدارة وتحرير الصحف القومية المصرية في خطوة تطهيرية مستحقة. ومن حسن الحظ أن هذه اللعنة كانت «المفجر» لاندلاع الثورات التي نراها حاليا، ونأمل أن لا تتوقف بسبب عمليات المقاومة اليائسة والشرسة لبعض الحكام الديكتاتوريين للبقاء في السلطة بأي ثمن حتى لو أدى ذلك إلى مقتل الآلاف من أبناء شعبهم وتمزيق الوحدة الترابية والديموغرافية لبلادهم. سألني احد النواب الأوروبيين على هامش محاضرة ألقيتها حول الثورات العربية بدعوة من البرلمان الأوروبي، عن الفرق بين الأوروبيين والعرب، قلت له إن الفرق بسيط، ولكنه كبير أيضا، يلخص المشهد العربي الراهن أبلغ تلخيص، فالأوروبي يقدم المصلحة على الكرامة، بينما يقدم المواطن العربي الكرامة على المصلحة، انتم تعتبرون أنفسكم «واقعيين» وتعتبروننا عاطفيين، وتتعاملون معنا على أننا «أغبياء» أو «حالمون» في أفضل الأحوال. وختمت المناقشة بالقول إن ثورة الشعوب العربية هذه ليست بسبب البطالة والجوع للقمة الخبز، وإنما بسبب الجوع للكرامة وعزة النفس، وهي من المكونات الأساسية للجينات العربية والإسلامية، ولهذا تظل الأمة عصية على كل محاولات التطويع والتدجين... النائب الأوروبي هز رأسه ومشى بعيدا، وكذلك فعلت أنا.