إلى الفنانة عائشة ماه ماه لم أفاجأ وأنا أشاهد الفيديو، الذي تناقلته العديد من الصفحات عبر الأنترنيت للجُحر الذي تعيش فيه الفنانة القديرة عائشة ماه ماه، حتى أن الظروف غير الإنسانية التي تعيشها الفنانة بدت لي متوقعة وطبيعية بالنظر إلى واقع الفن المتعفن في بلادنا، والفوضى والاستغلال والتبخيس الذي نعاني منه جميعا وفي كل الميادين الإبداعية. حينما تطور الإنتاج المغربي وأصبحت القناتان تخصصان ميزانيات مهمة لإنتاج المسلسلات والأفلام والسيتكومات استبشر الفنانون خيرا، وبالمصادقة على البطاقة المهنية للفنان شعروا بأن أبواب الفرج ستفتح، خصوصا أن أولى البطاقات قدمت من طرف الملك والدفعة الأولى مُنحت تحت قبة البرلمان، لكن مرت الأيام والأعوام وظلت هذه البطاقة دون تفعيل ولا تصلح لشيء مطلقا، فلا القنوات التلفزية تعتمدها في اختيار الفنانين المحترفين الذين ستتعامل معهم، ولا المنتجون ولا أي جهة وصية على الفن. لذلك يحصل المنتجون المنفذون، الذين لا يقومون في الواقع بالإنتاج بمفهومه الحقيقي، ولكن فقط باقتسام كعكة الميزانيات التي يحصلون عليها من التلفزة أو المركز السينمائي، والتي يكون لهم منها النصيب الأكبر ويرمون الفتات للفنانين، وخصوصا الممثلين، ففي بلدنا حيث العديد من المخرجين والمنتجين والممثلين يتحدثون عن الموهبة ويقصون التعليم والتكوين والتدريب، هناك أمية فنية لا مثيل لها، وبالتالي فكل شخص يمكن أن يكون ممثلا أو مخرجا أو كاتبا دون تكوين ولا تعرف على أبسط أبجديات هاته المهن، التي يقضي الطلبة عبر العالم سنوات يدرسونها وينهلون من معارفها إلا حالات خاصة لعباقرة يخلقون الاستثناء، ولا أظن أننا ننجب عبقريا كل دقيقة. والرابح الأكبر في هذه السيبة هم المنتجون والمخرجون الذين أصبحوا منتجين، والممثلون الذين أصبحوا منتجين، لأنهم ببساطة لا يختارون ممثليهم لكفاءتهم أو موهبتهم أو تكوينهم، ولكن «لرخصهم» في غياب قانون يضبط سلم الأجور كما في مصر أو سوريا أو أي دولة تحترم فنانيها، وفي غياب نقابة قوية تستطيع أن توقف تصوير أي عمل لا يحترم معايير اختيار الفنانين، وغياب قانون واضح يحمي الفنان والمشاهد، لأن الخاسر في الأخير هو الفنان والمشاهد والفن وصورة البلد. الفنانة عائشة ماه ماه مثلها كثير: مبدعون قدموا العديد من الأعمال الناجحة وأحبهم الجمهور المغربي وعاش برفقتهم لحظات متعة عبر أعمال فنية ستظل راسخة في الذاكرة، لكنهم يمنحون الفرحة للناس فيما يبكون في صمت وألم ومكابرة. فنانون كُثر بعضهم توفي والحسرة تملأ قلبه، والبعض يموت كل يوم ألف مرة دون رحمة ولا نجدة ولا اعتبار. العديد من الفنانين همشوا، وظهرت فتيات قادمات من المواخير ليقدمن أدوار البطولة دون تدخل لأي جهة للحد من هاته الظاهرة. أغلب شركات الإنتاج تتبنى سياسة البحث عن وجوه جديدة، فيما في الحقيقة تبحث عن الوجوه التي لا تكلفها عقدا محترما وظروف تصوير مهنية. أعمال تلفزية تكلف الملايين يغيب عنها الفنانون المحترفون وتطفو عليها الارتجالية والعبثية دون حسيب ولا رقيب. خريجو المعهد العالي يحتجون، فلا هم حصلوا على وظائف ولا هم اشتغلوا في الأعمال الفنية التي يعتبرون الأحق بالمشاركة فيها، وإلا فلماذا نؤسس معهدا عاليا للفن إن كنا سنختار فنانينا من الحانات والمقاهي والبيوت المظلمة؟. لقد صرحت الفنانة عائشة ماه ماه بأنها لا تشتغل إلا نادرا، وحتى أجرها لا تحصل عليه إلا بعد وقت طويل، ويا له من أجر.. كيف لها إذن أن تعيش في بيت يليق بها وباسمها وبسنين طويلة من العطاء؟ كيف لها أن تحيا بكرامة وعفة و«نجومية»؟ كيف لبلد لا يحمي فنه وفنانيه أن يحمي هويته وعزة أهله؟.. فالفنانون صورة البلد وواجهته.. أهذه هي الواجهة التي نستحق؟ فنانة تعيش في مكان يفتقر لأبسط ضروريات الكرامة، فيما يغتني أشباه المنتجين ويقتنون الشقق والسيارات والأراضي الفلاحية ويراكمون الثروات دون أن يسألهم أحد من أين لكم هذا، ودون أن يفرض عليهم أحد تشغيل الفنانين المحترفين وتفعيل بطاقة الفنان وضبط الأجور.. ممثلون ينبتون كالفطر ومخرجون أميون وكتاب لا يفرقون بين كتابة الإنشاء أو القصة أو الخربشة أو السيناريو، فيما تنزوي في الظل طاقات كبيرة ومبدعون نبلاء وفنانون بحس وديع وثقافة واسعة وفكر ونضج وفلسفة.. سنوات والوضع لم يتغير. تضاعف الإنتاج وتضاعفت معه معاناة الفنانين وثروات المنتجين والسماسرة وظلت المعاناة نفسها والدمع نفسه. لقد ظلت الفنانة عائشة ماه ماه تبتسم وهي تتحدث عن ظروف عيشها، فقد حبست دمعة مكابرة في مقلتيها أبت أن تنزل كي لا يراها جلادوها وجلادو فناني هذا البلد كرماء النفس الذين لا يتسولون ولا يتملقون رغم المعاناة.. و بين الدمعة والابتسامة نداء لكل من له غيرة على الفن والفنانين أن ينقذوا البلد ممن ينهشون جسده ويغتنون على حسابه ويتاجرون باسمه وينهبون المال العام باسم الفن والإبداع و«الإنتاج». لقد قال الملك: «المحاسبة»، لذلك آن الأوان أن يسأل المنتجون من أين لكم هذا ويوضع حد لهذه الدراما الواقعية.