كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. يود أصحاب النزعة «الصفوية» من المسلمين في كل مكان الاعتقادَ بأن أسلافهم إما ينحدرون من أطهر الطاهرين أو قد اعتنقوا الإسلام على يدهم: أي العرب الذين أرسوا قواعد هذه الديانة. الحال أن هذا نادر جداً. وغير بعيد منا، في ستينيات القرن الميلادي العشرين، قامت ضجة كبرى في أندونيسيا عندما نشر البروفيسور سَلاميتمُولجانا كتاباً يرجح فيه أن يكون جل الأولياء التسعة الذين نشروا الإسلام في أندونيسيا صينيين. في وقت لاحق، كانت هناك هجرات من غُوجَراتْ الساحلية بالهند الغربية، وهي نتيجة طبيعية للاحتكار الغوجراتي لتجارة التوابل المُولوكية، وكذا من ساحل مالابارْ. كانت هذه هي الطريق التي اتخذها ابن بطوطة، كاتب الرحلة الشهير من القرن الميلادي الرابع عشر. وعلى غرار المتعاطين المحدَثين لهذا الجنس من الكتابة، كان أحياناً يطلق العنان لخياله على حساب قدراته على الملاحظة. رحّب أمير دَوْلسا بابن بطوطة في الجزيرة وركبا معاً لدخول مدينة سومُاترا (سومطره)، وهي «مدينة جميلة كبيرة مطوقة بسور خشبي وأبراج خشبية». ويصف ابن بطوطة البلاط في مدينة تعج بالكفار. اشترى هؤلاء السلام بأداء «الجزية»، وهي ضريبة يفرضها الإسلام على غير المسلمين. وسوف يحتاج الإسلام إلى ثلاثة قرون أخرى من الزمن لكسب معظم سكان يافا وسوماترا، إلا أنه أقحم نفسه بشكل لطيف، مثلما فعلت البوذية والهندوسية قبل ذلك بقرون. يرجع الفضل في اعتناق كثير من الناس الإسلامَ إلى متصوفة جنوب آسيا والتجار المسلمين من ساحل كورومانديلْ وغوُجرات، وفي حالة كاشمير، إلى الحاكم الذي اعتنق الإسلام فتبعه رعاياه. قدرة الإسلام على تكييف تعاليمه لكي تستجيب لحاجيات السكان المحليين كانت ناجعة في الصين وأفريقيا وفارس وجنوب آسيا. هذا الأمر هو الذي يفسر كذلك انتشاره الواسع في الأرخبيل. وكثيراً ما كان يُرفع بعض سلاطين يافا المسلمين إلى درجة القداسة بعد وفاتهم، فتتحول أضرحتهم إلى مكان يتعبّد فيه المؤمنون، من دون أن يثير ذلك غضب الأئمة. وهذا لم يكن يختلف كثيراً عن التعبد بالأولياء الصوفيين في البنجاب أو فارس أو أناطوليا. كان ردّ فعل المؤمنين الحنيفيين (الأورثوذوكسيين) قاسياً في بعض الأحيان، ولكن عدد هؤلاء كان قليلا. لذلك، بدل أن يقضوا على التقاليد القديمة، باتوا يواجهون خطر الغرق فيها. قبل وصول البوذية وخليفتها، الهندوسية، كان السكان المحليون (كما في الأمريكيتيْن وغيرهما) قد آمنوا بعالم تتحكم فيه الأرواح. وحسب التقاليد المحلية، كانت تلك الكائنات تسكن في الغابات والوديان والبحار والجبال. كانت الكوارث تعزى إلى غضبها، وكان الخير يتأتى بالقربان وإبعادُ الشر بحمل التعويذات والحُجب ومنْح الكهنة قدرات خارقة. صارت الخرافات جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية. وبما أنه كان يُعتقد بأن كثيراً من الأرواح تتحدث عبر النساء، أسنِد لهن دور هام في الطقوس الدينية، ومن ثم في بنية السلطة المحلية. ولعل هذا يفسر أيضاً ظهور عبادات المتنكرين: رجال بلباس النساء لأغراض سياسية وثقافية، بدل الأغراض الجنسية. أدمجت البوذية والهندوسية كثيراً من هذه الخرافات وظلت طريقة الصوفية في الإسلام تتسامح مع هذه الممارسات. كثيراً ما شرحت الفلسفة الصوفية وجود الله الدائم في الطبيعة وفي الحياة اليومية للكائنات البشرية. لذلك، لم تكن الصلاة الجماعية جوهرية. يمكن لكل مؤمن أن يكتشف الله بطريقته الخاصة. ابن عربي (1165-1240م)، وهو أحد كبار فلاسفة التصوف الإسلامي، وضع مذهب «وحدة الوجود»، وهو إيمان ما قبل-سْبينوزي (نسبة إلى باروخ سبينوزا: 1632-1677م) بالخالق بصفته مرئياً في مظاهر مختلفة من الطبيعة والروح البشرية، وإمكانية الإنسان الكامل، الذي تجتمع فيه كل الصفات الإلهية. كان التصوف الإسلامي مناسباً للسلاطين العثمانيين في وقت كانوا فيه منشغلين بأعمال غير صوفية، مثل توسيع إمبراطوريتهم عسكرياً. أهان السلطان سليم الأول الحنيفية الإسلامية عندما أمر بإعادة بناء ضريح ابن عربي في دمشق. وقد أخذ بعض أتباع ابن عربي هذه الحجة إلى أقصى الحدود، فقالوا إن معرفة الله الحقيقية لا تتأتى إلا عندما يبلغ الرجال والنساء ذروة الانتشاء، الذي قد يكون جنسياً أو لاجسدياً. وإلى شيء من هذا القبيل (مع استبدال لذة الجماع بشرب الخمر) كان يدعو حمزة فنسوري بغرب سوماترا في النصف الثاني من القرن الميلادي السادس عشر. كان هذا مُعززاً للثقة ومُعيناً، تماماً كما كان الإصرار الصوفي على علاقة الشيخ والمريد في إطار طرقهم المختلفة. كان تقديس الشيخ عبادة مثمنَة في ثقافة عرفت قروناً من الهيمنة الهندوسية والبوذية. لا شك أن الفلسفة الصوفية عرفت التبسيط خلال عملية النقل، ولكن تم الاحتفاظ بالجوهر في أبرز جانب من هذا التصوف، ألا وهو الدعوة إلى استقلال تامّ عن الفرق الدينية الطائفية وكافة التأويلات الحنيفية للقرآن. التصوف يمقت الطقوس بشدة. وقد جادل كثير من المتصوفة بأن المؤمنين الحنيفيين لا يمكنهم إلا أن يكونوا منافقين باعتبارهم يُحكِمون الإغلاق على عقيدتهم فلا تظهر في ممارساتهم اليومية في العالم المادي. في المقابل، يصر الصوفي (المتصوف) على أن الخالق لا يقيم إلا في عوالم الروح ولذلك سعى إلى فك الارتباط بعالم المادة الخارجي وخزيه. لقد رفض القبول بالله الذي لا يوجد إلا في المظهر. كثيراً ما كان مُعلمو الصوفية يشرحون الأفكار الصوفية للمعتنقين المحليين بلغة تتضمن نقطاً مرجعية مألوفة، كما هو الشأن في هذا المثال من يافا: «يقال إن بصر الإنسان شبيه بحليب جوزة الهند، الذي سيصير على المدى البعيد زيتاً، بموزة غير ناضجة، تنضج بشكل تدريجيّ... وتدريجياً يكتمل بصر الإنسان بفعل الله حتى لا يبقى هناك ريب من أن العين ستشاهد الجوهر». الإسلام في نظر معظم المؤمنين، بصرف النظر عن طقوس العبادة الجديدة، بسّط لهم وجودهم. لم تعد الأرواح في حاجة إلى استرضائها بالقربان أو بعبادة شبكة متشابكة من الآلهة الذكور والإناث، بل عبر الله ونبيه محمد. مما وفر حماية موثوقاً بها ضد جميع أشكال الشر، غير أن كثيراً من الخرافات القديمة رفضت أن تموت، فإلى يومنا هذا، لا زال الصيّادون في بلدات ساحلية عديدة يقدمون للأرواح أضحية رمزية قبل خروجهم إلى البحر. إن العادة الإسلامية الوحيدة التي تطلبت بالفعل القطيعة الكاملة مع الماضي وفرضت تغييراً في الحياة اليومية كانت هي الطابو المتعلق بأكل لحم الخنزير. هكذا وجبَ فتقيد بها في العلن جميع المسلمين، سواء كانوا صوفيين أو مؤمنين حنيفيين، ولو أنه في الظروف القاهرة ربما كان يُؤكل لحم الخنزير والعِفر (كما كان يفعل الفلاحون المسلمون في آسيا الجنوبية)، عادة بعد سقوط الظلام مع الادعاء بأن الذبيحة جاموس صغير أو عِجل. من سوماترا ويافا، انتقل الإسلام إلى بُورْنيو وجزر أخرى مجاورة، مقيماً في النهاية مَوقعاً متقدماً سيتحول إلى سلطنة سُولو وميندَناوْ في الفيلبين. حققت الموجة الأولى من الإسلام النجاح من خلال ائتلاف مكوَن من التجارة واعتناق الحكام المحليين للإسلام والزواج المختلط وفي بعض الأحيان الغزو. وكان أهم خصوم الإسلام الأوائل هم أعداؤه القدامى من شبه الجزيرة الإيبيرية. جاء التدخل الحاسم في شكل غزو ألبوكيركي لمالاكا سنة 1511م، الشيء الذي منح البرتغاليين السيطرة على طرق الملاحة التجارية الآسيوية. وبعد ذلك بعقود، سيصل الإسبان إلى الفيلبين ويطردون المسلمين من المدينة المسماة اليوم مانيلا، جاعلين إياهم حبيسي منطقة ميندَناوْ- سُولو. وقد نجحت الدولتان الإيبيريتان في تنصير الكثيرين وفق المذهب الكاثوليكي، فيما بقي الطرف الشرقي من يافا بوذياً-هندوسياً حتى القرن الميلادي الثامن عشر. ولا زالت هناك مناطق جبلية نائية شرق وغرب يافا غير مسلمة.