قبل ثلاثة وعشرين عاما، أنجبت ديبورا فيلبس، وهي معلمة في إحدى المدارس العمومية بمدينة بالتيمور بولاية ماريلاند، طفلا يزن أربعة كيلوغرامات ونصفا ولا يتجاوز طوله 58 سنتيمترا، واختارت له من الأسماء مايكل، وفرحت كثيرا بانضمامه إلى أسرتها الصغيرة المكونة من Fred زوجها الذي يعمل في سلك الشرطة، وطفلتين جميلتين. سنوات قليلة بعد ذلك، تلقت ديبورا فيلبس رسالة من معلمات طفلها مايكل في المدرسة، يشتكين فيها من شغبه الدائم وعدم تركيزه في القسم، ويطلبن منها عرضه على طبيب نفسي. حملت ديبورا طفلها الذي لم يكن يتوقف عن القفز وتوجهت به إلى إحدى المصحات النفسية، حيث شخصوا حالته بأنها نوع من مرض نادر يسمى اختصارا ب«فرط النشاط الزائد». خضع مايكل للعلاج النفسي حتى تحسنت حالته، لكنه بدأ هذه المرة ينطوي على نفسه ويبتعد عن رفاقه في المدرسة بسبب التعليقات القاسية التي كانوا يشهرونها في وجهه سخرية من حجم أذنيه الكبيرتين وذراعيه الطويلتين! وانضاف قرار الطلاق الذي اتخذته ديبورا من زوجها إلى الأعباء النفسية التي كان يرزح تحتها مايكل، إلى أن قررت والدته يوما تسجيله في ناد للسباحة بمدينة بالتيمور مع شقيقتيه، وهناك فقط تعلم الفتى ذو الذراعين الطويلتين كيف يرمي همومه النفسية والأسرية بين طيات الأمواج الصناعية التي بدأ يصارعها خلال حصص السباحة. لم تمض سوى سنة واحدة فقط حتى تحول ولع مايكل بالسباحة إلى رغبة كبيرة في الفوز بالميداليات الذهبية وتحطيم الأرقام القياسية، كي ينتقم من رفاق طفولته الذين «عقدوه» بتعليقاتهم الساخرة منه! كانت هذه قصة حياة «الدولفين» الأمريكي مايكل فيلبس الذي أصبح يحمل اليوم لقب أفضل بطل أولمبي على مر العصور، بعدما نجح في حصد ثماني ميداليات ذهبية وتحطيم سبعة أرقام قياسية في الدورة التاسعة والعشرين من الألعاب الأولمبية التي تستضيفها العاصمة الصينية. مايكل فيلبس تحول إلى بطل قومي داخل الولاياتالمتحدة، تتسابق على أخباره المجلات العلمية والطبية والرياضية وحتى الفنية وتلك المهتمة بالموضة، كما تتابع أنشطته كبريات الصحف كالواشنطن بوست والنيويورك تايمز، بل إن قناة NBC التي حصلت على عقد حصري لتغطية الألعاب الأولمبية، اهتمت بتفاصيل التفاصيل في حياة «فتى أمريكا الذهبي» كما تلقبه في برامجها، فخصصت برامج متعددة للحديث عن طفولته والمشاكل النفسية التي واجهها، ثم فترة مراهقته والصراع الداخلي الذي عاشه بسبب طلاق والديه، وعمدت القناة بعد ذلك إلى إعادة رسم خطواته الأولى داخل المسبح الضخم بمدينة بالتيمور، ثم إنجازه التاريخي في أولمبياد أثينا قبل أربع سنوات عندما حصد ست ميداليات ذهبية وتحول إلى بطل قومي أمريكي. كما اهتمت برامج التلفزيون الأخرى بالبرنامج اليومي لمايكل فيلبس في الأولمبياد، واستعرضت الأطباق اليومية التي يتناولها والتي تتعدى سعراتها الحرارية 12 ألف سعرة في اليوم الواحد فقط، بالإضافة إلى عدد ساعات نومه وتدريباته... الأمريكيون انبهروا بأداء مايكل فيلبس، وتحول توقيت الساعة العاشرة مساء إلى موعد مقدس تتجمع أثناءه الأسر الأمريكية حول شاشات تلفازها الضخمة من أجل الاستمتاع بمشاهدة «الدولفين» الذي يختفي تحت الماء قليلا ثم يظهر كي يدفع بذراعيه الطويلتين والقويتين المياه الزرقاء في الحوض الأولمبي ويحطم الأرقام القياسية ويتوج صدره بالذهب. حتى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش اضطر إلى الانتظار بعض الوقت حتى ينتهي فيلبس من مقابلاته التلفزيونية المتعددة وتصريحاته الصحفية الكثيرة، لكي يقف إلى جانب فيلبس ويحمل العلم الأمريكي ويلتقط صورا تذكارية مع البطل الذي انتصر على عذاباته النفسية وحقق للولايات المتحدة انتصارا تاريخيا في هذه الأولمبياد. يوم أمس الأحد، جلست ديبورا فيلبس في الملعب الأولمبي تتابع ابنها يدخل التاريخ من أوسع أبوابه كأحسن رياضي أولمبي في التاريخ، عندما حصد ميداليته الذهبية الثامنة في دورة ألعاب واحدة. لكن يبدو أن كل ذلك يبقى أقل بكثير مما يطمح إلى تحقيقه «الدولفين» الأمريكي الذي قال بتواضع جم بعد حصده الميدالية السابعة قبل يومين: «هذا حلم يتحقق اليوم، وقد عملت بشكل متواصل من أجل تحقيقه، لكنني مازلت في الثالثة والعشرين من عمري، وأتمنى أن تتاح لي الفرصة في المستقبل من أجل حصد المزيد من الميداليات، وتمثيل بلدي بشكل مشرف في الدورة الأولمبية القادمة»!