المغرب بلد له تاريخ عريق يمتد لآلاف السنين، وتناوبت على حكمه العديد من الدول من فترة ما قبل التاريخ إلى اليوم. وبلد كهذا لا يمكن أن يخلو من مآثر تاريخية مهمة تؤرخ لكل هذه الدول المتعاقبة على حكمه، من الرومان وما قبلهم إلى الدولة العلوية في الوقت الراهن. وبالفعل، فإن المغرب يتوفر على عدد كبير من المآثر التاريخية، حددها الباحث المتخصص في علم الآثار الدكتور جمال بامي في أكثر من ثلاثة آلاف موقع أثري، تتوفر فيها كل المميزات التي تجعلها كذلك. لكن الدولة المغربية، متمثلة في وزارة الثقافة، لا تهتم، للأسف الشديد، سوى بما يقرب من 300 موقع أثري، فيما الأعداد الهائلة الأخرى متروكة لوسائل التعرية من مطر ورياح لتفعل فيها فعلها. وقد شاهدنا ونشاهد ما يقع في كثير من المواقع الأثرية التي ستنتهي إلى الاندثار إذا لم يكن هناك تدخل عاجل يُنقذها من بين أنياب الزمن. إن المسؤولين عن هذا القطاع يجب أن يعلموا بأن الذاكرة مسألة مهمة وخطيرة في تاريخ الشعوب، والحفاظ عليها يعد حفاظا على تاريخ عريق لهذا البلد. وقد شاهدت، في زيارة لي لدولة الإمارات العربية المتحدة، كيف تعمل هذه الدولة على الحفاظ على مآثرها التاريخية، وحتى البسيطة منها تحظى بالعناية التامة ويتم ترميمها وفق معايير الزمن الذي شيدت فيه. كل هذا العمل وتاريخ هذه الدولة محدود بالمقارنة مع تاريخ بلاد مثل المغرب، تموج بالمآثر التاريخية الضخمة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. إنه من غير اللائق أن تهتم وزارة الثقافة المغربية بعدد محدود من المواقع التاريخية المهمة في بعض المدن المعروفة والتي تشهد إقبالا كبيرا، سواء من قبل السياح الأجانب أو من قبل المغاربة، فيما تهمل، عن قصد أو عن غير قصد، آلاف المآثر الأخرى التي تحتضنها مدن ومداشر مغربية بعيدة عن المركز وعن محور المدن التاريخية المعروفة منذ القديم، كفاس والرباط ومراكش وتارودانت. من يلتفت إلى المآثر التاريخية المنتشرة في أماكن متفرقة من الصحراء المغربية؟ من ينقذ آلاف القصبات في ورزازات والرشيدية والتي تتناقص أعدادها يوما بعد آخر؟ قصبات بنيت بطريقة متميزة، واستعملت مواد خاصة في بنائها، أما الأشكال الفنية المتميزة التي تملؤها فتلك قصة أخرى، سيكتشفها من يزور هذه المعالم المشرفة على الاندثار بسبب إهمال بني الإنسان. إن التاريخ لا يرحم من يتساهل في الاهتمام بذاكرة الشعوب ومآثرها، والأجيال التي ستأتي بعدنا لن تسامحنا على إهمال مآثر الآباء والأجداد. ولكي تبقى الذاكرة متقدة، يجب العمل بكل قوة من أجل وضع مخطط ثقافي حقيقي للحفاظ على هذه الآثار. وأول خطوة يجب القيام بها هي إحصاء هذه المآثر وحصرها ومعرفة المهدد منها بالانهيار والاندثار، والإسراع في استخراج ميزانيات محترمة من أجل ترميمها وزرع الروح فيها من جديد. وهذا لن يتم إلا بواسطة أناس همهم الوحيد هو الحفاظ على ذاكرة الوطن، أشخاص نزهاء لا تهمهم مصلحتهم الشخصية ولا يسعون إلى نهب المال المخصص لترميم هذه المآثر. الخطوة الثانية التي يجب الإسراع في تنفيذها هي وضع برنامج وطني من أجل بناء متاحف تاريخية كبرى، لأنه من المخجل أن تجد في مدن كمراكش أن الأجانب هم من يعملون على بناء متاحف محترمة تتوفر على آثار متميزة، فيما الوزارة الوصية تبني متحفا وحيدا يتيما، بل هناك مدن تاريخية لا تتوفر حتى على متحف وحيد يحفظ لها ذاكرتها. إن سياسة المتاحف توازي في أهميتها بعض السياسات التنموية في مجال تطوير الإنسان ومحو الأمية، لأن المتاحف تجعل الأمة تمحي أميتها بتاريخها وبمن صنع تاريخ أمة اسمها المغرب. أجد من الغريب ألا يعرف أغلب تلاميذ المدارس والجامعات في المغرب أسماء الزعماء الذين حكموا المغرب من المولى إدريس والدولة الإدريسية، مرورا بالمرابطين والموحدين، وغيرها من الدول التي حكمت هذه البلاد، فيما يجيدون ويحفظون عن ظهر قلب أسماء المئات من نجوم الموسيقى المعاصرين، ولاعبي كرة القدم من جنسيات وديانات مختلفة. والمسؤول عن هذه الوضعية هو الإعلام الوطني الذي لا يتعب من السهرات والليالي الراقصة، فيما لا يخصص للبرامج الوثائقية التي تهتم بالمغرب وتاريخه المجيد سوى لحظات قليلة من البث، وميزانيات قليلة جدا تجعل أغلب الصحفيين والمنتجين يزهدون في هذه الأعمال التاريخية المهمة، في وقت تخصص فيه الملايين لبرامج الرقص والغناء. نحن هنا لسنا، طبعا، ضد الغناء والطرب وجميع أنواع الموسيقى، فهي وجه آخر من وجوه الشخصية المغربية التي تميزها عن غيرها، فالموسيقى الأصيلة المغربية من بين المقومات التي تضفي طابعا خاصا على هذه الأمة الضاربة جذورها في عمق التاريخ. إن المنظومة الإعلامية الوطنية التي تخصص إنتاجات خاصة لمحو الأمية في أوساط الشعب أو نشر الوعي من أجل الحد من حوادث السير المميتة على الطرقات، يتوجب عليها أن تعمل بكل ما أوتيت من إمكانات لتعريف المواطنين المغاربة بتاريخهم العظيم، وتنتج أعمالا كثيرة حول مآثر المغرب التاريخية، وتثير الانتباه إليها وتساهم، بشكل أو بآخر، في الحفاظ عليها من خلال إبرازها في الإعلام والتنبيه إلى الحالة التي هي عليها لكي تصنع من وراء كل ذلك رأيا عاما وطنيا يشكل ضغطا على المسؤولين من أجل الاهتمام بذاكرة الأمة والحفاظ عليها. كم هو جميل أن نرى، إلى جانب كل هذا التقدم الذي يشهده المغرب، تقدما في اتجاه الحفاظ على آثار المغرب ومآثره، وسعيا حثيثا من أجل ترميمها وتدشين متاحف تحفظ لها ديمومتها واستمراريتها، لتكون مصدر فخر دائم للأجيال القادمة التي ستحس بالاعتزاز وهي تطالع تاريخها الكبير. وإلى أن تتحقق هذه الرؤية، نتمنى ألا تتحول مآثرنا إلى أطلال نبكي عليها، ونندم على عدم الحفاظ عليها، ربما حين لا ينفع الندم.