منذ ثلاثة عقود، كتبنا أن مشروع النهضة العربية كان ولا يزال في حاجة إلى العودة إلى ينابيعه الأولى لدى المفكرين العرب والمسلمين في القرن التاسع عشر، أي إلى فكر الأنوار والحداثة، ودعونا إلى مقولات جديدة بديلة لشعارات أنظمة الاستبداد: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. ولعل ما يحدث في العالم العربي من ثورات شعبية وتحطيم لجدار الخوف والمطالبة برحيل رؤساء دول وحكومات، يشير بوضوح إلى تألق تيار المواطنة، حيث تتمثل المطالب ب: إلغاء حال الطوارئ، إطلاق الحريات العامة، تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، محاسبة الفاسدين، رفض أساليب القمع والتمسك بسلطة القانون، تأمين المشاركة الواسعة في السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة يشرف عليها القضاء، الإفراج عن جميع سجناء الرأي والضمير، تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وإقامة الدولة المدنية التي تحافظ على كرامة مواطنيها وتكفل المساواة بينهم. ولا غرابة في أن تضع الثورة العربية الجديدة المنطقة في أتون مرحلة انتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية. وقد أصبح واضحا أن المحصلة النهائية لهذه المرحلة باتت أقرب إلى إرادة الشعوب منها إلى إرادة أنظمة الاستبداد. ولعل ذلك يعود إلى فقدان هذه الأنظمة معنى وجودها، أي زيف الوظائف التي تدعيها أو الشعارات التي ترفعها. إن ما حدث هو ثورة على الاستبداد السياسي الذي كان منتشرا في عقود مضت. وإذا كان الإبداع الثوري الذي أظهرته الثورتان في تونس ومصر مازالت تجلياته في تصاعد، فإن رياح التغيير تعصف في الأقطار العربية كلها، بحيث يمكن أن نقول إننا دخلنا الموجة الرابعة من موجات التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. إن موجة ثورات التغيير لن تتوقف في العالم العربي، رغم شراسة المقاومة الدموية التي تبديها أنظمة الاستبداد، ذلك لأن الشعوب ثابتة على مطالبها ومتمسكة باستكمال عملية التغيير لبناء نظام ديمقراطي جديد. لقد جاءت الثورة العربية الجديدة لتدفع إلى الواجهة بفعاليات شبابية، لم يُعرف عنها الميل إلى السياسة في ما سبق، ولكنها كانت تبحث عن خيارات أفضل لأوطانها: العدالة والديمقراطية والمساواة، وحل أزمة البطالة المتفشية، ورفع مستوى معيشة المواطنين والقضاء على الفساد والرشوة. وبقدر ما أن انخراط الشباب العربي في قيادة التغيير يعتبر مكسبا كبيرا للثورة العربية الجديدة، فإنه يدفعنا إلى التحذير من تمكن بعض النخب التقليدية من السطو على الثورة أو فرض الوصاية عليها، أو أن يتحول الجيش من الضامن الرئيسي للمطالب العادلة للمواطنين ولعملية التحول الديمقراطي إلى الضامن لبقاء بعض رموز أنظمة الاستبداد في المراكز السياسية والأمنية الرئيسة. وفي كل الأحوال، بات من شبه المؤكد أن الخارطة السياسية للعالم العربي مقبلة على متغيرات كبيرة، من شأنها إعادة ترتيب أولويات الشعوب العربية وطبيعة اهتماماتها، وأن هذه المتغيرات ستحتاج إلى فترة زمنية حتى تكتسب هوية مستقرة، من خلال دساتير جديدة تصوغها مجالس تأسيسية منتخبة، بما يعني أن هناك مخاطر من حصول قلاقل وتوترات واضطرابات في المرحلة الانتقالية، كما هو حال كل الدول التي انتقلت من الاستبداد إلى الديمقراطية، مما يستوجب الحذر من تدفق المتربصين بالتغيير، الذين يحاولون ركوب موجته وامتطاء شعاراته، وفي رأس كل منهم أهداف وأحلام شتى من وحي ما قبل التغيير. وإذا كان من المبكر أن نجري حسابا للوقائع والتطورات، لأن فيها الكثير من التعرجات والتعقيدات، فإن ما يميز اللحظة العربية الراهنة هو الحراك الشعبي والسياسي غير المسبوق الذي يمكن أن يبلور البديل الممكن والضروري. فالثابت أن حراكا إنسانيا رائعا يجري بحجم كبير وتضحيات كبيرة، يتجه نحو مواطن عربي جديد، ووعي عربي جديد، وعالم عربي جديد ناضج، عصري وحر. إن الذي جرى ويجري يندرج في سياق الاستحقاقات التاريخية، التي تقتضي الانتقال بالأمة العربية من عصر التخلف والجمود وقمع الحريات واحتجاز التطور، إلى عصر النور والالتحاق بركب الحضارة الحديثة والعودة إلى الانخراط في سياق حركة التاريخ بعد عقود من التهميش. وهكذا نجد أن الشعوب العربية الآن، من خلال دروس ثورتها الجديدة، لم تعد تقبل بترقيع واقع الاستبداد أو تجميله، فترد الاعتبار إلى المصطلحات السياسية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومجتمع المواطنين الأحرار إلى معناها الجوهري، أي نحن أمام حالة صافية من إرادة رد الاعتبار إلى اللغة وإلى مدلولاتها السياسية. فالحرية تعني أن الشعوب تتطلع إلى نظام حكم ديمقراطي يقوم على الدستور والقانون واستقلال السلطات، وتعني التوزيع العادل للثروة والاعتراف بالتعددية السياسية وبحقوق الناس في التفكير والتعبير والتجمع والتظاهر، وتعني في الأساس التداول السلمي على السلطة، بحيث يعيش الإنسان حرا في بلده. أما الكرامة فهي تعني صيانة الكرامة الوطنية وتعزيز المواطنة بعيدا عن اللون أو العرق أو الطائفة أو المذهب أو النوع. لقد اختفت بهذه الثورة الكثير من الادعاءات التي عول عليها الطغاة لتدعيم سلطاتهم، مثل الصراعات الطائفية والمذهبية، وكذلك تكريس الخوف من تيار الإسلام السياسي، كل ذلك اختفى مع الانصهار في الثورة وتألق المواطنة. لقد سقط بعبع البديل الإسلامي، الذي طالما روجته أنظمة القتل العربية التي راحت تصور للداخل وللخارج أن بديل استبدادها وتسلطها هو استبداد وتسلط الإسلام السياسي. إن الثورة العربية الجديدة أنهت حقبة سلطات الحكم المطلق، ودشنت بداية عصر المواطنة والمواطنين، ناقلة السلطة من الدول الاستبدادية إلى المجتمعات المدنية العربية للمرة الأولى في التاريخ. فيا لها من صحوة عربية تجتاح هذا الوطن الكبير، كأن الأمة صارت رجلا واحدا استفاق من سباته، واكتشف حكامها فجأة أن لديهم شعوبا حقا لا رعايا يحكمونهم بالخوف، تريد بهذه الثورة الشاملة تقويم تاريخها وتغيير مسارها بسلاح إرادتها. إن الكثير من الأنظمة العربية تواجه تحديات كبرى وتجد نفسها أمام مآزق حقيقية، في ظل الإكراهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المطروحة، تفرض عليها اعتماد مبادرات حقيقية تزرع الثقة في أوساط شعبها، الذي تخلص من عقدة الخوف والإذعان، في محيط إقليمي يغلي بالاحتجاجات والثورات الشعبية التي تواكبها وسائل الإعلام المختلفة لحظة بلحظة. إن ساعة الحقيقة، التي طال أمد سكوتها في المنطقة العربية، دقت، فها هي شعوب منطقتنا تنطلق لبناء مجتمعات مدنية متوثبة نحو المستقبل في ظل أوطان ديمقراطية حرة. عبد الله تركماني