ترى لماذا يفتح صوتها كل الأشجان العتيقة ويتفجر ينبوعا صافيا من ذكريات؟ صوت فيروز عاصفة حنين جارف، ظل لسنين يحكي شيئا من تاريخ كل منا. صوتها مثل طائر محلق بين جمال اللحن، وإتقان الكلمة. أغنياتها تجلب القمر حتى شرفتك، كي تسامره وتحكي له عن حنينك للغائبين، أليست هي جارة القمر؟ تغني، فتتفجر ينابيع الروح من كل كياننا، تقول ما نعجز عن البوح به، وتفتح أعيننا على تلك المشاعر البسيطة التي لا طريق لنا إلى إخراجها. وتنوب عن المحبين، لتقول بوحهم وأشجانهم، يتهدل صوتها داخل ارتعاش قلوبهم، وهم ربما يفتحون خلسة رسائل الحب.. صوتها بلسم يهدئ من قلقنا ويزيد من جرعات الأمل في أن نعيش ونحب ونصادق.. صوتها يكسر وحشة المساء وينادينا كي ننتظر نيسان، حين يلد الفراشات، كي نستعيد وهج القلب، مثل عشاق لأول مرة. تنصت إلى أغنيات فيروز ممزوجة في صوتها الساحر، فلا تبقي شكا في أنها ربما تصف جمال بلادك، كما لو أنها تصور كل الأماكن الفاتنة التي لم يطلها بعد التشويه ولم يستعمرها العمران. وفي بعض الأطراف من المغرب العذراء. تتذوق هذه الموسيقى، وتقول إن الرحابنة لا يقصدون بكلماتهم سوى فتنة إفران أو مناطق من الريف. ويصفون بألحانهم جزءا من هذا الوطن، ربما لأن طبيعة وجبال لبنان تشبه كثيرا طبيعة وأشجار الأرز بمناطق الأطلس المتوسط، وتغوص في السفر الساحر الذي يهبه صوت فيروز الفريد، وأنت مازلت لا تعرف أين يسكن كل هذا الجمال. لكن، أليس من دواعي الشفقة أن نفتح أعيننا على الحياة ونحن نلجأ، كل مرة، إلى فيروز وإلى الآخرين ليقولوا أحاسيسنا؟ أن تستقبلنا الحياة بشيء سمي «أزمة الأغنية المغربية»؟ تكبر معنا وتظل تتكرر على مسامعنا، ويرثها أبناؤنا وهم، على ما يبدو، سيلجؤون بدورهم إلى المغنيين وإلى موسيقى الآخرين كي يتغنوا بأحاسيسهم، علهم يواجهون هذا القبح الذي يطل علينا كل مرة تحت شيء يسمونه موسيقى وغناء، هذا النقع السوقي الذي يلقى إلينا عبر التلفاز الذي تصر الكاميرات فيه على أن تجلب الراقصين والمتفرجين وهم يصفقون ويهتفون لبعض الأغنيات، محاولين إقناعنا بأن آذاننا غير سوية، إن لم تتذوق هذا الهدير الذي يهدى للمغاربة. ربما لكي يتلهوا به ريثما تحل تلك الأزمة، ويصرون على أن هذه الملهاة تدخل تحت خانة الفن والغناء، عوض الاعتراف بأن القريحة تجف والإبداع يقل في وطن لا قيمة للموسيقى وللتربية على التذوق الفني في مؤسساته التعليمية، ولا مكان لها في المؤسسات الثقافية، وأن الموسيقى، والفنون عموما، لا تحتاج فقط إلى دعم أو أموال.. إنها تصنع من موهبة صادقة وحب للجمال. واليوم، مازالت فيروز، التي جاوزت الخامسة والسبعين من العمر، ترجع مرة أخرى لتغني أحلامنا وآمالنا في ألبومها الأخير «إيه في أمل». بعد كل هذا العمر، مازالت هي نفسها، بأغانيها التي تحكي قصصا صغيرة عمن تنخر الغربة ذكرياتهم وتلتهمها.. تمد جسرا مبهجا بيننا وبين أنفسنا، تصدح بأغنياتها الجميلة، فتعيد تشكيلنا، وترسم كل مرة تفاصيل حياتنا، في هذا الصوت الساحر الذي ينثر رذاذا على أرواحنا الظمأى للجمال، تصدح بألحان أشبه بالحلم، تنتصر لنا وللفن الصادق في زمن النشاز والقبح الذي تغني فيه الأجسام العارية بعهر لم يسبق له مثيل.