كانت القنابل تسقط وسط الثوار، لكن الهواء كان يأخذ الغاز في الاتجاه العكسي جهة الجنود، وكثيرا ما كانت القنابل تسقط بجوار الجنود فيذهب الغاز كله باتجاههم. وكان المشهد بحق آية من آيات الله، وكان الغاز في أغلبه يأتي من الجهة الأخرى من النهر من ناحية المهندسين والدقي حيث كانت هناك تظاهرات أخرى وتجمعات كبيرة للثوار، فكان الهواء الذي يحمل الغاز من تلك الجهات حينما يعبر نهر النيل يأتي للمتظاهرين خفيفا إلى حد بعيد، صحيح أنه كان يؤثر على العيون والحلق أيضا، لكن تأثيره كان أقل من الغاز المباشر الذي كان يصطلي به الجنود. أيضا نجح الثوار وتفننوا في استخدام قنابل الغاز التي كانوا يقذفون بها، بحيث يجعلون ضررها يقع على الجنود، فقد كان بعضهم يجيد إعادة إلقاء القنبلة على الجنود بعدما يلتقطها بيده من على الأرض فتسقط في وسطهم يساعده الهواء على ذلك، وكان آخرون يحملون دلاء فارغة وأخرى بها ماء، فأما الفارغة فكانوا يغطون بها القنبلة ويحصرون الغاز داخل الدلو، ثم يرفعون الدلو بعد مدة فيكون الغاز قد تبخر وأصبح أثره قليلا، وآخرون يلقون الماء على القنبلة عندما تسقط فكنت أراها تنطفئ مثل إلقاء الماء على النار. وأذكر أني من خلال تغطيتي للحروب، كنت أجد المقاتلين البسطاء يتفننون كذلك في وسائل المواجهة مع الأسلحة العاتية وبسرعة يكتشفون ما يبطلها، وقد كان المتظاهرون يتفننون في التعامل مع قنابل الغاز، لكن لم تكن لهم حيلة مع الرصاص المطاطي والرصاص الحي. رجعت بحصيلة جيدة من الأخبار أعطيتها للزميل عبد الفتاح فايد، مدير المكتب، حيث كان يتبادل مع سمير عمر إبلاغ الأخبار للزملاء في الدوحة عبر الهاتف الوحيد الذي كان يعمل في المكتب، ثم وقفت في شرفة المكتب أتابع ما يحدث في ميدان عبد المنعم رياض وشارع رمسيس وشارع النيل وكوبري 6 أكتوبر والجهة الأخرى من النيل، ناحية المهندسين والدقي. وقد لاحظت شيئا غريبا وعجيبا يحدث على كوبري قصر النيل من ناحية الدقي، لاحظت أن معركة حامية الوطيس تجري أحداثها هناك، فقد كانت القنابل المسيلة للدموع تطلق بغزارة وكأن هناك عمليات كر وفر. أبلغت عبد الفتاح بما يجري وطلبت منه أن يشير إليه على الهواء. ورغم أن الصورة لم تكن واضحة بتفاصيلها، فإن الصورة المجملة كانت تظهر أن هناك مواجهات حامية الوطيس تدور بين المتظاهرين وقوات الأمن على كوبري قصر النيل. وبعد ذلك، ظهر شريط الفيديو الذي صور من إحدى غرف فندق سميراميس والذي أظهر المعركة الشرسة التي دارت رحاها بين الثوار المسالمين العزل وقوات الأمن المدججة بالأسلحة والذخائر وخراطيم المياه، وكيف نجح الثوار العزل في التغلب على قوات الأمن بعزيمتهم وإصرارهم في الوقت الذي استخدم فيه رجال الأمن كل شيء لقمع التظاهرة، فقد دهسوا الثوار بسياراتهم وألقوا عليهم القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي وفتحوا عليهم خراطيم المياه وهم يصلون، وشاهدت الدنيا كلها هذه الانتهاكات الفظيعة من رجال الأمن الذين ظهر أنه لا دين لهم ولا خلاق ولا حتى إنسانية، والتقيت بعد ذلك ببعض المتظاهرين الذين شاركوا في هذه التظاهرة وأبلغوني بأن الشباب المتظاهرين كانوا يهجمون بصدور عارية على الجنود، فيخطفون منهم الأسلحة ثم يلقونها في نهر النيل، وكان كثيرون منهم يستطيعون استخدام هذه الأسلحة وتوجيهها إلى صدور الجنود لكنهم لم يفعلوا. وتذكرت ما حدث على هذا الكوبري، الذي كان يسمى كوبري عباس، في شهر فبراير عام 1946 حينما أطلق الجنود البريطانيون النار على المتظاهرين، من طلاب جامعة القاهرة وغيرهم، الذين كانوا يهتفون ضد المحتل البريطاني، وفتحوا عليهم الكوبري وهم في منتصفه فاستشهد كثيرون غرقا في النهر أو بالرصاص الحي، وقلت في نفسي ما هو الفارق بين المحتل البريطاني والمحتل الحالي من النظام الفاسد الذي يقتل نفس الشعب بعدما نهب ثرواته وخيراته؟ كانت الأخبار تصلنا تباعا من زملائنا الذين كانوا قد ذهبوا إلى أماكن مختلفة في القاهرة من أجل التغطية، رجع الزملاء الذين كانوا قد ذهبوا إلى الجامع الأزهر وأبلغونا بأن الثوار هاجموا قوات الأمن وأزالوا المتاريس في دقائق معدودة، وكذلك جاء زملاؤنا الذين كانوا في منطقة المهندسين وحملوا نفس الأخبار. وكانت خلاصة ما يدور أن هناك قتالا شديدا من قبل قوات الأمن وصمودا كبيرا من الثوار. وكانت الروايات كلها تصب في شيء واحد هو أن «الخوف قد مات في نفوس المصريين» ولن يتراجع الثوار عن تحقيق مطالبهم مهما كان الثمن. كانت الأخبار تأتينا تباعا من المستشفيات أيضا، وكانت تحمل أخبارا مؤلمة عن تصاعد أعداد الشهداء والجرحى، وبلغنا أن عدد الشهداء في ثلاثة مستشفيات فقط كانت قريبة منا قد زاد على عشرين شهيدا، وقد كان هذا في الساعة الرابعة عصرا على وجه التقريب، إلا أن الأمور تصاعدت بشكل غير متوقع. قبيل الغروب، سمعت أصواتا عالية في ميدان عبد المنعم رياض، ذهبت لاستكشاف السبب فوجدت التحاما حميميا لم أتخيله بين المتظاهرين وقوات الأمن التي كانت تقاتلهم قبل قليل والتي تجمعت ثم توقفت عن إطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز على الثوار، ثم حدث هرج ومرج وفوضى عارمة في الميدان، حيث بدأت تتوافد العشرات من سيارات الأمن المركزي منسحبة بشكل فوضوي من ميدان عبد المنعم رياض وميدان التحرير وشارع رمسيس، بينما كان جنود يفرون على أقدامهم، أبلغني الزملاء أن بعضهم طلب اللجوء والاحتماء في مبني دوحة ماسبيرو، فآواهم الناس في الجراج، بعدما احترقت سيارتهم وفقدوا الاتصال بقادتهم، وهالني هذا الشباب الرائع الذي احتضن الجنود بعدما كف الجنود عن إطلاق الرصاص المطاطي والغاز عليهم بقلوب متسامحة، ولم أجد أيا منهم يتشفي أو ينتقم بل أحضروا الماء والطعام للجنود الذين كانوا يقتلونهم قبل قليل. توجه المتظاهرون بقوة ناحية ميدان التحرير وبأعداد كبيرة، ولم نكن نفهم حتى هذه اللحظة ما حدث، غير أن بعض القوات بقيت على كوبري السادس من أكتوبر تقذف القنابل المسيلة للدموع على الثوار رغم الانسحاب الكبير الذي شاهدناه، وفجأة لمحنا مع الغروب سيارة مدرعة تحت كوبري السادس من أكتوبر، هرع إليها المتظاهرون وهم يهتفون «واحد اثنين الجيش فين؟» ليعلنوا نزول الجيش، ثم وجدناهم يعودون متقهقرين. نزل أحد الزملاء ليستطلع الأمر فوجدها عربة جيش، لكن الأمر كان ضبابيا حتى هذه اللحظة ويعتقد أنها قوات تابعة للحرس الجمهوري. فجأة، رأيت من شرفة المكتب أدخنة تتصاعد من قريب، فلما تبينا الأمر وجدنا النيران تشتعل في المقر الرئيسي للحزب الوطني الديمقراطي الذي يقع في مواجهتنا.. أذعنا ذلك مباشرة. وحينما بدأت النيران تتصاعد، طلبنا سيارات الإسعاف وأن تتوجه لإطفاء النيران تفاديا لوصولها إلى مبنى المتحف المصري الذي يقع بجوار مبني الحزب الوطني. جاءتنا أنباء عاجلة بعد ذلك مفادها أن النيران قد اندلعت في مركز شرطة الأزبكية الذي يقع في شارع الجلاء ثم في مبني مجمع محاكم الجلاء المجاور له، وأن رجال الشرطة قد فروا من المراكز ثم من مراكز الشرطة الأخرى، وبدأ كثير من الثوار يتوافدون إلينا على الأقدام يبلغوننا بأن الأمور تتطور بشكل مريع، ولم تمض عدة ساعات حتى بلغنا أن عدد مراكز الشرطة التي أحرقت في القاهرة وحدها تزيد على خمسة عشر مركزا للشرطة، ورجح كثيرون أن رجال الشرطة أنفسهم كانوا وراء ذلك أو البلطجية الذين كانوا يستخدمونهم، لأن هذا كان ذريعة للتغطية على جرائمهم في حق هذا الشعب، لكن التحقيقات التي من المقرر أن تجري ربما تكشف حقيقة ما حدث. بعد ذلك، بدأنا نسمع إطلاقا للرصاص الحي من ناحية ميدان التحرير، وعلمنا بأن المتظاهرين وصلوا إلى مبنى وزارة الداخلية وحاصروها وأن قناصة الداخلية يطلقون الرصاص الحي على المتظاهرين، وبلغت حصيلة الذين قتلوا من المتظاهرين حول وزارة الداخلية بعد ذلك ما يزيد على عشرين متظاهرا في تلك الليلة الدامية. كان الليل قد بدأ يرخي سدوله وبدأت الفوضى تعج في كل مكان بعدما غادر رجال الأمن الساحات وحتى مراكز الشرطة، ولم نكن نعلم حقيقة ما حدث، غير أن روايات عديدة نشرت حول ما حدث في تلك الساعات حول الانهيار الأمني الكامل وسقوط الدولة الأمنية في مصر.