تفرق الشباب بعد إطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم بكثافة رهيبة، ودخل كثيرون منهم شارع سوق التوفيقية المتفرع عن شارع رمسيس وشوارع جانيبة أخرى. أذهلني ما رأيته بعد ذلك، فقد تحركت إحدى السيارتين القاذفتين للقنابل ووقفت على رأس الشارع، وخرج منها ضابط برتبة نقيب وأخذ يطلق الرصاص المطاطي بشراسة وحقد دفين على المتظاهرين وبشكل مباشر، مع كم هائل من القنابل المسيلة للدموع، وصاح رجال الأمن فينا أن نتحرك بعيدا بعدما بدأ التوتر الشديد يخيم على المشهد. طلب مني مرافقي أن نبتعد، لكني طلبت منه أن نبقي قليلا، ووقفنا بالفعل لنجد شيئا زاد ذهولي.. لقد تجمع الشباب مرة أخرى وبسرعة فائقة وقاموا، وهم عزل، بهجوم مضاد على رجال الأمن الذين وجدتهم يتقهقرون أمامهم كالفئران المذعورة رغم ما في أيديهم من سلاح وعتاد وقوة، ثم تراجع الشباب مرة أخرى بعدما فر رجال الأمن، ولا أدري أين ذهبوا، لكني سرعان ما وجدت السيارات القاذفة للقنابل تتحرك تجاه شارع 26 يوليوز مع أعداد كبيرة من رجال الشرطة السرية والضباط وحتى الجنود، وقال مرافقي إنه من المؤكد أن هناك مظاهرة أخرى قادمة من هذا الشارع، لكني فوجئت بأن الشباب لديهم خطة مدروسة، وهي إنهاك رجال الأمن في هذه الشوارع الفرعية الكثيرة الموجودة في تلك المنطقة وهذا ما قاموا به بالفعل لأني سرعان ما سمعت أصوات تظاهرة أخرى قادمة من جهة بولاق أبو العلا وصحيفة «الأهرام» اتجهت نحوها قوة أخرى من رجال الأمن وبعض السيارات، ثم ظهر تجمع ثالث قادم من ناحية مسجد الفتح في شارع رمسيس، فأسقط في يد الأمن وأصبح يتعامل بهستيريا وقسوة شديدة مع الموقف ولا يعرف من أين يمكن أن يلاحق التظاهرات التي جاءت من كل مكان.. أخذت قوات الأمن تتبعثر فيما كان الضباط يصدرون الأوامر بسهتيريا إلى الجنود الاحتياطيين الذين كانوا لا يزالون في السيارات بأن ينزلوا ويشاركوا زملاءهم الهجوم على التظاهرات التي كانت تنشق الأرض من كل شارع لتخرج منها تهتف بسقوط مبارك ونظامه، فيما بدأت القوات تتبعثر وتطلق القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي بغزارة شديدة، فأصبحنا في ساحة حرب حقيقية أبطالها شباب مصري أعزل خرج يحرر بلاده من الفاسدين الذين سطوا عليها ويحكمونها وجنود هذا النظام الفاسد الذي كان يتعامل مع المصريين بامتهان واستلاب لثرواتهم وآدميتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة.. أصبح دخان القنابل المسيلة للدموع يغطي المكان بشكل مريع، ولاسيما أن الهواء كان يحرك كمّا هائلا من الدخان من ناحية ميدان عبد المنعم رياض الذي نظرت إليه فوجدته مشتعلا بتظاهرات أخرى، وقواتٌ أخرى من الأمن تواجهه تتمركز في ناحية المتحف المصري وميدان التحرير. كنت تماما وسط المعركة حينما قررت العودة إلى المكتب بعدما قضيت ما يزيد على ساعة ونصف الساعة وسط التظاهرات حتى أنقل إلى الزملاء ما يدور في المنطقة وما رأيته، حتى ينقلوه بدورهم إلى الزملاء في الدوحة في نشرة الساعة الثالثة التي كان قد اقترب وقتها. قال مرافقي إنه من الأفضل أن نسير بمحاذاة دار القضاء العالي ونقابة المحامين والصحفيين حتى نتجنب الصدامات التي كانت قائمة بين المتظاهرين في شارع الجلاء وقوات الأمن أمام جمعية الشبان المسلمين. وبالفعل تحركنا، لكن ما إن وصلنا أمام نقابة المحامين حتى وجدت أحد الضباط بلباس مدني يركض نحوي من الجهة المقابلة للشارع وحوله عصابته من الشرطة السرية بلباس مدني، وكان واضحا من طريقته في الهجوم علي أنه قد عرفني، لأن آخرين غيري كانوا يمشون في الشارع بشكل عادي دون أن يسألهم أحد عن شيء طالما أنهم لا يشاركون في التظاهرات، وقف الضابط أمامي وأخذ يصرخ في وجهي بهستيريا وصوت مرتفع عدة مرات متلاحقة: «من أنت ولماذا جئت إلى هنا؟ بينما أحاط بي رجاله من الشرطة السرية من كل جانب، ولم أعد أرى أحدا سواهم، حتى مرافقي لم أعرف أين ذهب؟ قلت له بهدوء: طالما سألتني من أنا، فمن المؤكد أنك تعرفني؟ قال: أعطني هويتك الصحفية؟ مددت يدي في جيبي حتى أخرج هويتي، فأطبق رجاله الخناق علي، وبدأ بعضهم بالاعتداء علي، قاومتهم رغم كثرتهم وصرخت فيهم قائلا: «من يضربني سوف أضربه، أيها الجبناء»، وكررتها أكثر من مرة بصوت عال غاضب. في هذه اللحظة لمحني ضابط آخر، ويبدو أنه عرفني لأنه صاح فيهم لا تضربوه، لكني رفعت صوتي عليهم وأهنتهم وكدت أضربهم بعدما خففوا الخناق عني لولا أن أحد الذين أمسكوا بي صاح فيهم: إبتعدوا لا تضربوه واتركوه لي، بينما أخذ الضابط الأول بطاقتي الصحفية وأخذ يركض في اتجاه ضابط أكبر منه يرتدي الزي المدني، وسمعته يقول له: «أبلغ القيادة»، فقد كنت صيدا ثمينا بالنسبة إليهم. أوقفوني في البداية وسط سيارات الأمن المركزي التي كانت تقف على جانب الشارع، بينما طلب ضابط الأمن المركزي إبعادي عن السيارة، لكن الضابط الذي كان يرافقني طلب من رجال الأمن الذين كانوا يرافقونني أن أبقي مكاني. كنت قريبا من ضباط الأمن وأسمع كلامهم وتوجيهاتهم للقوات، وشعرت بأنهم في حالة هستيريا وفقدان للتوازن، حيث تكثر الشوارع الجانبية في تلك المنطقة التي كان الشباب يفرون إليها ثم يفاجئون رجال الأمن بالخروج من شارع آخر. وفي كل مرة، كان ضباط الأمن يطلبون مزيدا من القوات وقاذفي القنابل ويأمرونهم بأن يخرجوا لمواجهة مزيد من التظاهرات. بالنسبة إلي، يبدو أنهم حينما اتصلوا بالقيادة طلبوا منهم إبقائي رهن الاعتقال، وهذا كان اختطافا لأني صحفي أقوم بواجبي وعملي وليس من حق أحد اعتقالي أو احتجازي أثناء قيامي بأداء عملي. لم أكن أعلم شيئا عن مرافقي، لكني علمت بعد ذلك بأنه أفلت بذكاء شديد من بين أيديهم حينما وجدهم مشغولين باعتقالي وكأني صيد ثمين بالنسبة إليهم، وذهب إلى مكتب قناة «الجزيرة» وأبلغ الزملاء بالاعتداء علي واختطافي من قبل رجال أمن بلباس مدني وبث الخبر مباشرة على شاشة «الجزيرة». بعد قليل، طلب الضابط من رجال الأمن الذين كانوا يحيطون بي أن يدخلوني إلى العمارة رقم 47 شارع رمسيس، وأن يحتفظوا بي في المدخل بعدما كان كثير من الناس الذين يمشون في الشارع يتعرفون علي، وبعضهم كان يتجه نحوي للسلام علي ثم يفاجأ بأني في قبضة البوليس السري. يتبع...