الألباني نظرا إلى أصله الأعجمي، كان تقي الدين الألباني مستهجنا في بداية مسيرته من طرف العلماء السعوديين، لكنه كان يلقى دعما سريا من عديد من الشيوخ السلفيين المعاصرين، لكنه سرعان ما نجح في نيل مكانة مرموقة وسط العلماء السلفيين، كما اعترفت له السلطة الدينية الرسمية بصفة العالم، وذلك بعدما قامت لجنة الإفتاء في الرياض بإرسال خطاب للشيخ المحدث عبيد الله الرحماني يسألونه عن حديث غريب، فقام جمع من العلماء بإحالة كتاب بالأمر على الألباني، مزكين إياه لدى الحكام السعوديين من خلال وصفهم إياه بكونه أكبر محدث في العصر الحالي. ونظرا إلى المكانة الجديدة، أصبح الألباني مدرسا رسميا في الجامعة الأسرمية. لم يتردد الألباني في مقابل ذلك في الثناء على السعودية واصفا إياها بدولة العقيدة الصحيحة ومحمد بن عبد الوهاب بإمام الإسلام وشيخه. يقترن اسم الألباني بعلم الحديث، فقد عرف بالاعتناء بنقد الحديث سندا ومتنا، حيث أبدى في كتابه «الأحاديث الصحيحة والضعيفة» نزعة نقدية فاحصة ومتعمقة، وكان من حيث الابتكار والنزعة البحثية أشبه بالمؤلفات الكلاسيكية. وقد زاد من انتشاره تناقص مثل هذه الإصدارات وسيادة المختصرات والشروح والكتب المدرسية في مجال علم الحديث منذ وقت طويل. وقد أضيف هذا الكتاب، مثل غيره من مؤلفات الألباني في علم الحديث (صحيح الرهيب والترغيب، وصحيح الجامع، صحيح السنن الأربعة، إرواء الغليل)، إلى الصحاح من كتب الحديث التي تعد اليوم من أبرز المؤلفات التي يعتمدها الدارسون للعلوم الإسلامية من السنة. وفي الكتب التي قام بتخريج أحاديثها، أظهر الألباني براعة في علم الإسناد من خلال الاشتغال بالحديث، تصحيحا وتضعيفا وتحسينا، معتمدا على ضبط سلسلة الرواة ونقدهم بالتعديل والتجريح، كما أظهر نزعة نقدية شديدة، ومن مواقفه الدالة على ذلك عدم قبوله الحديث الصحيح أو الحديث من المتفق على صحته عند المحدثين جميعا إذا كان مضمونه غير مقبول بسبب توهمه، فهو يأخذ ببعض الحديث الضعيف عندهم إذا كان معناه مقبولا في نظره. وفي مجال الفتوى، اعتبر الألباني أن النقد المتبادل بين أهل العلم، تخطئة وبحثا ومناقشة، من علامات أهل السنة التي يتميزون بها عن أهل البدعة، ولهذا السبب غلبت على الألباني فتاوى طابع العنف، حيث اتخذ من التخطئة والتنكيل بالأشخاص أسلوبا للنقد، فاعتبر أن اتباع المفتي لعقيدة مخالفة للسلفية سبب كاف للطعن في عدالته ورد فتواه، فلا تستحق الفتوى النظر والدراسة إلا إذا صدرت على أساس الدعوة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. وبعبارة أخرى، كان الألباني يرى أن من شروط الحوار الفقهي الاتفاق على السلفية كمرجعية إيديولوجية، وليس فقط اتفاقهم في مرجعيتهم المعرفية ودلالة المفاهيم التي يستعملونها. كما عرف الألباني بالجرأة في مواجهته لأتباع المذاهب، ونقده الشديد لمخالفي المذهبية السلفية مهما كان شأن القائل ومكانته، وكان من أهم ردوده إجازة وصف «الضال» الذي أطلقه أحد مشايخ السلفية على محمد الغزالي، الفقيه المصري، بسبب نحلته الاعتزالية. ولم يتوقف الألباني عند هذا الحد، بل أفتى بعدم جواز قراءة كتبه ومنعها على صغار الطلبة، حتى لا ينخدعوا بما أوتي من فصاحته وبلاغة، فيضلوا بضلاله. من بين مقولاته في هذا الإطار مساواته بين المذهب الحنفي والإنجيل المحرف، حيث قال في تبريره لهذا الحكم «وإنما أردت الرد على فرية نكراء اخترعها بعض متعصبة الأحناف، وخلاصتها أن عيسى عندما سينزل سيحكم بالمذهب الحنفي، فكتبت ذلك التعليق نقضا لهذه الخرافة». نفس الجرأة كان يواجه بها المتعاطفين مع المتمذهبين أو من يدافع عنهم، سواء علم بذلك أو تعامى عنه. كما أنه انتقد بعض فتاوى ابن باز في أول خطاب مباشر يتوجه به إلى شخص رئيس هيئة كبار العلماء قبل حرب الخليج. كما كان الشخصية الوحيدة من العلماء السلفيين التي انتقدت جهرا ابن تيمية واصفة بعض فتاواه بالزلات. من مفارقات مواقفه أنه اعتبر الانتساب إلى المذاهب الفقهية خروجا عن السلفية، وهو ما يؤدي، من الناحية المنطقية، إلى إخراج الفقهاء الكلاسيكيين الذين يعتبرهم السلفية رموزا لها، ومنهم بن رجب الحنبلي وابن كثير الشافعي والحطاوي الحنفي وابن عبد البر المالكي. وقد جعلته هذه الجرأة يتمتع بمكانة خاصة بين الشباب وصغار الطلبة، حتى أخذ عليه فتحه الباب أمام هؤلاء للجرأة على الفقهاء وهجر كتب أهل العلم والأخذ مباشرة من الكتاب والسنة. وقد أفتى ابن العثيمين، الفقيه السلفي المعروف، في إشارة له إلى أن «ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأنهم، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها، فإن تكلم العلماء لم يثق الناس بكلامهم». أخيرا، تشير المصادر إلى أن الألباني مارس في أواخر حياته نقدا ذاتيا على منهجه العنفي في الدعوة، فاعتذر عن التجريح الذي لحق العلماء بسبب آرائه، واعترف بتفاوت الجهود المبذولة في الدعوة، فانتقد انصراف جل مجهودات الدعاة إلى مجال تصفية العقائد من المعتقدات المخالفة في مقابل شح المجهود المبذول في مجال التربية على حسن الأخلاق ومعاملة الغير. كانت له شجاعة في معارضة الوهابيين في بعض المسائل، فقد أنكر القبض بعد الرفع من الركوع وسماه بدعة حجازية. خلاصة من خلال دراسة إسهامات هذه الرموز، نكتشف أن هناك تدرجا في بناء المذهب بشكل ينحو نحو التجذير وفقد الأصالة الأولية، ففي المرحلة الأولى من تأسيسها (ابن حنبل) شحنت الإيديولوجيا بإضافات نوعية صارت معها بناء متماسكا ومتميزا، وفي مراحل ثانية أضيفت سلسلة من التقعيدات والتضييقات من معاني ودلالات المفاهيم التي تستعملها (ابن تيمية)، أما الإضافات المتأخرة فكانت محاولات لإحياء الإيديولوجيا وإعادة الروح إليها، ولكنها لم تؤد في الواقع سوى إلى مزيد من الأصولية، لتتحول السلفية إلى عقيدة دوغمائية أصبح من شبه المستحيل التحرك من داخلها أو العثور على حركة اجتهادية حقيقية من داخل أسوارها. اللهم ما كان من تكرار تراث السلف الأوائل الذين وضعوا أسس المذهب السلفي وترتيباته التفصيلية. ومن ناحية اخرى، تمدنا تتبع تحليل سير ومسارات الآباء المؤسسين بامكانية تصنيف الحركات السلفية العاملة اليوم بحسب نوع التاثير الذي مارسه هؤلاء عليها والطرق التي تلقت بها افكارهم، فمن هذه الحركات من تأثر بالجانب العملي أي مقارعة المذهبيات المخالفة، وهم حسب السلفيين أصحاب المنكرات وأهل البدع والضلالات والمقلدين ومختلف السلوكيات البعيدة عن الهدي النبوي (جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة)، ومنها من تأثر بالجانب العملي والبحثي وتكوين نخب قادرة على الاجتهاد والتجديد بما يكفل إعادة ربط الناس بمفهوم السلف للعقيدة وما ينتج عنها على مستوى القول والعمل. والرد الشرعي على من ينكر ذلك من علماء المذاهب المخالفة (جمعية الحافظ ابن عبد البر) ومنها أخيرا من تأثر بالجانب الجهادي ضد «أعداء الإسلام» في الداخل والخارج (السلفية الجهادية). انتهى/ عبد الحكيم أبواللوز - باحث في علم الاجتماع الديني المركز المغربي في العلوم الاجتماعية