لن يفتر الأدب عن أن يكون مرآة لحياة الناس التي تعجز كتب التاريخ عن تدوينها، تؤرخ لأحاسيس شعوب تعيش تحت الظلم. قبل الثورة المصرية، ظل الأدباء والشعراء يقولون وينظمون الكلمات عن الحياة تحت الاستبداد، مرة يصطدمون بالقمع، ومرة ينتظمون داخل صفوف النظام. وحين طال الانتظار حل مكان الشعر والأدبِ إحساسٌ بالضجر. سئم الشعب وعرف الجميع أن تغيير الوضع في مصر أمر ميؤوس منه، لأن المصريين صبورون بالسليقة، ولا مكان لإشعال فتيل الثورة فيهم. حتى إن الكاتب علاء الأسواني في روايته «أوراق عصام عبد العاطي» يقول إن المصري «لطول عهده بالذل قد ألفه واستكان إليه، اكتسب مع الوقت نفسية الخادم». ولا شك أنه الآن قد غير نظرته إلى الشعب المصري الذي ثار دون سابق إنذار. لقد اصطف العالم أمام الشاشات والقنوات العابرة للقارات، ليشاهد مسلسلا شيقا مثيرا اسمه الثورة المصرية، التي نظمت مراحلها على شكل أيام معنونة ب«جمعة الغضب»، وأخرى «الرحيل»، وثالثة «الصمود»، والرابعة «جمعة التحدي». مشاهد هذا المسلسل الواقعي لم تخل من رعب، مع دماء الشهداء التي سالت، والمنظر المفجع للسيارات التي تدهس المتظاهرين مثل كلاب ضالة، أو مشاهدة المصلين تصفعهم المياه القوية. ولم يتراجع الشعب لأن الجميع يعلم بأن هؤلاء الصامدين قد عاشوا، تحت نظام الحزب الوحيد، أياما أسوأ من ذلك، في بلد همم الناس العالية فيه لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج جيدة. مع هذا المسلسل الثوري الممتع قد يطول الانتظار، لكن لا مكان فيه للسأم، بما أن هؤلاء الشباب لا توحدهم إيديولوجيات معينة، وتباعدت أمكنة إقامتهم وانتماءاتهم الاجتماعية، فمنهم فقراء ومترفون ومن ينتمون إلى طبقات متوسطة، تفرقت أسبابهم، لكنهم اتحدوا في قراءتهم لواقعهم، واستعملوا وسائل لا يمكن أن يتسرب إلينا الملل من خلالها، مثل «فيسبوك» و»تويتر» وغيرهما من الوسائل التي تتواتر الأخبار عبرها دون توقف، والتي ظهرت اليوم كأكثر الأحزاب ديمقراطية، حيث لا تنتظم تحت أية مظلة أو انتماء فكري، في هذه الملحمة المصرية التي لم تكن أطول من شاهنامة الفردوسي أو إلياذة هوميروس، لكنها ليست أقل متعة أو فائدة. لا يختلف الناس في أن هبة المصريين كانت أكثر تشويقا ومتعة من ثورة التونسيين، فيها كر وفر، صباحا نوشك على الجزم بأن الرئيس مبارك سيضع أسلحته جانبا، ومساء يفتر حماسنا، وننتظر ما يجود به الغد. وحين جاءت الجمعة الأخيرة، خيل إلينا أن الرئيس سيجمع حتما ما تبقى من كرامته التي أريق ماء وجهها، عبر الشعارات والكلمات القوية التي رددت ضده بكل اللغات، لكنه لم يفعل. وعوض ذلك، خرج بخطاب يمطط من مسلسل الثورة، ويحكي عن تأثره وصدمته من مواقف بعض أبناء وطنه. خرج الرئيس ليضع شيئا من الضجر على هذه الثورة التي ظلت منذ بدايتها ممتعة ومثيرة. ومثل تيس عنيد، يتشبث بالكرسي المحبوب. وفي الخطاب الذي سبق إعلان تنحيه، أظهر مبارك نفسه مصدوما وضحية، ليغطي على سأم الشعب منه، وقرر أن يبوح بحزنه وضجره من المصريين، ويعدد تضحياته تجاه مصر، يذكرنا جميعا بمحمود درويش، في خطاب الدكتاتور العربي قائلا : ضجر! ضجر! ضجر! وحيدا أنا... أيها الشعب قلبي عليك، وقلبك من فلز أو حجر أضحي لأجلك، يا شعب،... فمن منكم يستطيع الجلوس ثلاثين عاما على مقعد واحد دون أن يتخشب؟