سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«الحمامات» شاهدة على تجاوزات «الطرابلسية» وفيلات أفرادها تحولت إلى مزارات دبلوماسي غربي للمساء : حينما رزق بن علي عام 2005 بابنه محمد سلم البلد بكامله إلى زوجته ليلى
بدت مدينة الحمامات التونسية قبل أيام، وكأنها مشتاقة إلى لحظات رواجها السياحي الذي نضب منذ اندلاع انتفاضة الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، فالشوارع هادئة والناس يمشون على الأرض بسلام، وظل مبنى التسوق الذي أحرقه المتظاهرون، رغم أن مالكه لا علاقة له البتة بالنظام السابق، وكذلك شبابيك سحب الأموال من المصارف، التي تم اقتلاعها بشراسة من الجدران المثبتة فيها، إضافة إلى سيارات محروقة هناك وهناك، شهود إثبات بامتياز على ما جرى. ويكفي زائر الحمامات أن يستقل سيارة أجرة ليعرف مدى التذمر الحاصل في نفوس الناس، وما تبع ذلك من كساد سياحي جراء توقف وفود السائحين عن المجيء إلى تونس، ومغادرة كثيرين منهم البلد خوفا من أن يصيبهم مكروه. وظلت الحمامات، 60 كيلومترا جنوبتونس العاصمة، منذ عقود، أحد المنتجعات السياحية الأساسية في البلاد، إلى جانب سوسة وجربة. يقول السائق فرج، وهو رب عائلة تتكون من ثلاثة أفراد، ل«المساء»: «نظل ندور طول النهار لوحدنا في سياراتنا.. لا حركة.. لا سياح». ويزيد قائلا: «بالكاد أحصل على خمسة دنانير في اليوم.. إنها لا تكفي لشخص واحد، فبالأحرى لعائلة». لكن أحزان الانحسار السياحي لا تساوي شيئا أمام الأحزان التي سببها «الطرابلسية»، نسبة إلى ليلى الطرابلسي، زوجة الرئيس المخلوع، في هذه المدينة الهادئة التي تعشق اللونين الأبيض والأزرق المتماهيين مع زرقة شاطئها المتوسطي الممتد في الأفق اللامتناهي. الحمامات معقل السياح، ومعقل «الطرابلسية» أيضا. كلهم مروا من هنا، ولم تبق سوى منازلهم وفيلاتهم الفاخرة التي دمرها المتظاهرون وعبثوا بها. يكفي المرء أن ينظر إلى أسوارها ليعرف أنها في ملكيتهم، ويستشف تميزهم عن باقي سكان المكان. «المساء» عاينت بعضها، منها ما أصبح مزارا يفد إليه التونسيون وكأنه متاحف. هناك، في فيلا سفيان بن علي، نجل أحد أشقاء الرئيس المخلوع، الواقعة بين فندقي سندباد وحياة، وهو شريط طويل ساكنوه من عائلة الرئيس المخلوع، يتوافد الناس زرافات ووحدانا، وقد بدت على وجوههم الدهشة.. كان لسان حالهم يتساءل: «لماذا كل هذا، لماذا التبذير؟». ليست فيلا سفيان بن علي وحدها التي تعرضت للتخريب من قبل المتظاهرين، فقصر الرئيس في الحمامات لم يسلم بدوره من ذلك. عند مدخل الفيلا، كتب على جدارها الأمامي اسم «القابسي»، في إشارة إلى أن أصحاب الأرض الحقيقيين هم من عائلة القابسي، تم اغتصابها منهم ليستمتع بها قريب الرئيس.. لكنه لم يستمتع بها، لأنها حرقت عن آخرها، وتم تخريب مسبحها وديكوراتها، وصارت مجرد خراب جميل مطل على شاطئ اللازوردي. ألم يقل ابن خلدون: «إن الظلم مؤذن بخراب العمران». لم يكتف سفيان بالسطو على أرض «القابسي»، بل سطا أيضا على ثلاثة أمتار من أرض جاره، وهو محام معروف في المدينة الساحلية، اسمه نجيب فرشيو، ولم يكن أمام هذا الأخير إلا أن يبلع لسانه مادام سيدخل معركة خاسرة من الأساس. نخرج من الفيلا، ويواصل مرافقي الحديث: «هذه فيلا سليم شيبوب، صهر الرئيس، وهذه فيلا عماد الطرابلسي، وهذه فيلا حياة الطرابلسي، وهذه فيلا بلحسن الطرابلسي، وهذه فيلا صخر الماطري، صهر الرئيس،... والبقية تأتي». والغريب في كل ذلك هو أن أحدهم بنى منزله فوق مجرى وادٍ نضبت مياهه، فهل هناك سريالية أكثر من ذلك؟ وغير بعيد عن هذه الفلل التي أصبحت مثل فصل من فصول الجحيم، يوجد «المركز الثقافي الدولي للحمامات»، وهو مسجل ضمن التراث العالمي لدى منظمة اليونيسكو.. لم يسلم المركز بدوره من مناورات «الطرابلسية» الذين حاولوا الاستيلاء عليه لبناء فنادق وعمارات مكانه.. لكنهم لم يوفقوا في مسعاهم. وتعود فكرة إقامة مركز الحمامات إلى بارون روماني ينتمي إلى العائلة الملكية اسمه جورج سيباستيان، كان يعيش في تونس ويعشقها، وقبل وفاته أهدى منزله للحكومة التونسية شريطة أن يكون مركزا للثقافة والتراث، وهو ما قام به نظام بورقيبة حينما أنشأ «المركز الثقافي الدولي للحمامات»، الذي جاءت إليه شخصيات عربية وعالمية في مجال الفكر والآداب والفن والموسيقى. ولما وصل بن علي إلى الحكم، حاولت عائلة الطرابلسي، بعد أن اشتد عودها، الاستيلاء عليه. وبدأت الشائعات تتناسل حول ذلك، فرفع المثقفون التونسيون صوتهم عاليا: «سنموت أمام باب المركز إذا مسه أحد». ورغم ذلك، استطاع «الطرابلسية» «ألا يخرجوا من المولد بلا حمص».. فقد استولوا على جزء من أرض المركز وشيدوا فوقها عمارة دون أن يحصلوا على ترخيص للقيام بذلك. ويقول مثقف تونسي يعيش في المدينة: «الطرابلسية لا تعني لهم كلمة «الثقافة» شيئا، إن المال والعقار مسألة محورية في حياتهم». ويضيف المثقف ذاته أنه في عام 2007، تم طرد مدير المركز ربما لفتح ثغرة لتنفيذ مخطط الاستيلاء على المركز، لكن تبين للطرابلسية أن تحقيق ذلك مسألة صعبة وستثير الكثير من اللغط، وأن للثقافة لعنة قد تطالهم. أما كيف طرد فتحي خراط، وهو مثقف ليبرالي يعمل حاليا مديرا لقطاع السينما في وزارة الثقافة التونسية، فتلك قصة أخرى. يقول خراط ل«المساء»، في هذا الصدد، إنه في أواخر غشت 2007، اتصل عبد الوهاب عبد الله، الذي كان آنذاك وزيرا للخارجية، بمحمد العزيز بن عاشور، وزير الثقافة، الذي أصبح الآن مديرا لمنظمة الأليسكو، طالبا منه أن يحجز له مقاعد لحضور حفل المطربة التونسية أمينة فاخت. وكان بن عاشور آنذاك مرشحا لإدارة الأليسكو، وملفه يوجد لدى وزارة الخارجية. وأضاف خراط أن وزير الثقافة اتصل به. وبالفعل، حجز مقاعد للوزير عبد الله ولعائلته، ولكن رغبات أفراد العائلة الحاكمة سببت له حرجا وإرباكا، فسليم شيبوب، صهر الرئيس بن علي، جاء إلى الحفل بدون سابق علم، وجليلة، أخت ليلى بن علي، طلبت حجز 10 مقاعد، فجاءت مرفوقة ب25 نفرا، وعياد الوردني، مدير ديوان رئيس الجمهورية، حجز خمسة مقاعد فجاء مرفوقا بعشرة أشخاص. «وهكذا ألفيت نفسي -يضيف خراط- غير قادر على توفير المقاعد المطلوبة، خاصة وأنني حجزت 40 مقعدا». ليلتها، جاء تقريبا كل آل بن علي وآل الطرابلسي إلى الحفل، إضافة إلى الطبقة السياسية والنخبة التي كانت تقضي عطلتها الصيفية في الحمامات. وفي خضم ازدحام شديد، وصل وزير الخارجية التونسي، بعد مرور 20 دقيقة على بدء الحفل، «فلم أجد له ولزوجته مكانا في الصفوف الأمامية، وجلسا في صف خلفي». بيد أن زوجته تبرمت، وقالت له على مسمع من بعض الحاضرين: «كيف يعقل أن تجلس هنا وأنت من صناع 7 نوفمبر؟». فكلم عبد الله وزير الثقافة و»كانت النتيجة إعفائي من مهامي»، يقول خراط. ويصف مثقفون تونسيون عبد الوهاب عبد الله بكونه «راسبوتين قصر قرطاج»، ويعتبرونه العراب الإعلامي لليلى بن علي، نظرا إلى أنه هو من فرضها على الإعلام التونسي. بدأ عبد الله مساره بقراءة الصحف للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وشغل رئاسة تحرير صحيفة «لا بريس»، وعين وزيرا للإعلام وسفيرا في لندن. ظفر بثقة الرئيس بن علي أيام كان رئيسا للوزراء حينما أبلغه بأن بورقيبة غاضب عليه، وأنه يعتزم إقالته، وبالتالي يجب على بن علي أن يتدبر أمره. وحينما تولى هذا الأخير رئاسة الجمهورية، أصبح لعبد الله نفوذ كبير، وتقلب في مواقع حساسة، آخرها تعيينه مستشارا للرئيس. ويقول إعلاميون إن عبد الله يقف وراء جميع الأمراض المزمنة التي أصابت الإعلام التونسي وصانع عاهاته، فهو الذي يقف وراء تعيين جميع رؤساء التحرير، إذ لا يعين أحد إلا بصدور ضوء أخضرَ منه، وهو من فرض على الصحف نشر صورة الرئيس بن علي حتى ولو لم يكن له نشاط رسمي. ومنذ خمس سنوات، أصبح التونسيون يقرؤون صحف بلادهم متضمنة صورة الرئيس وزوجته، وأحيانا تغطي صورة السيدة الأولى على صورة الرئيس، خاصة بعد أن أصبحت رئيسة لمنظمة المرأة العربية ورئيسة لجمعية «بسمة». وتتحدث صالونات الحمامات عن كون عبد الله كان يمر على ليلى الطرابلسي قبل أن يمر على الرئيس، واقتدى به المستشار الآخر عبد العزيز بن ضياء، بعدما أبلغتهما السيدة الأولى أن يكفا عن إزعاج الرئيس بالتقارير السوداء، بحجة أنه مريض، وأن يبلغاه في المقابل بأن كل شيء على ما يرام، وأن ما تبقى مجرد شائعات وأقاويل وأراجيف يروجها أعداء معروفون للنظام. ويقول دبلوماسي غربي، التقت به «المساء» في الحمامات، فضل عدم ذكر اسمه: «في 2005، رزق الرئيس بن علي بابنه الوحيد محمد. وآنذاك، سلم زوجته ليلى البلد بكامله». ولم يتوقف الدبلوماسي عند هذا الحد، بل زاد قائلا: «حتى تقارير المخابرات كانت تمر عليها، لغربلتها، قبل أن تصل إلى الرئيس». وأشار الدبلوماسي ذاته إلى محمد جغام، وزير السياحة لمدة 8 سنوات ووزير الداخلية لمدة عامين، وقال إنه من أكثر وزراء بن علي احتراما، ذلك أنه أخرج وزارة الداخلية في عهده من وطأة التعليمات الرئاسية». ومرت الأيام، يضيف الدبلوماسي، وأصبح جغام مديرا للديوان الرئاسي، حيث تلقى مرة تعليمات من ليلى بن علي فكان جريئا في الرد عليها، إذ قال لها: «مدام أنت زوجة الرئيس ولست الرئيسة»، فكان مصيره الإبعاد من قصر قرطاج، وعين سفيرا في روما. وحين انتهت مأموريته هناك، عاد للعمل في القطاع الخاص، وأصبح رئيسا مديرا عاما لفندق يملكه رجل أعمال عراقي، فكانت إدارة الضرائب بالمرصاد له، وتلك قصة أخرى يطول شرحها. تتواصل حكايات «الطرابلسية» في الحمامات، إلا أن التونسيين يبدون مصرين على طي صفحة هذه العائلة إلى غير رجعة، وفتح صفحة أخرى اسمها «المستقبل». البسمة بدأت رويدا رويدا تستقر على وجوههم، وإقبالهم على الحياة يتم بحماس كبير. هناك في مطعم «كوندور»، جلست عائلات وشباب وشابات، يتناولون فواكه البحر، متحررين من خوف طاردهم مدة 23 سنة، وكان لسان حالهم يقول: «لا طرابلسية ولا ديكتاتورية بعد اليوم». وثمة قناعة لدى التونسيين بأنهم لم يتخلصوا من دكتاتورية بن علي ليقعوا في مصيدة دكتاتورية أخرى. الرسالة وصلت.