في وسط النهار من يوم السبت أتابع الأخبار على القنوات، كلها تقول إن الوضع الصحي لشاعر العرب الأول في حالة حرجة، بعد ذلك بساعات يأتي الخبر الفاجعة، لقد توفي محمود درويش في مصحة للقلب في هيوستن في ولاية تكساس الأمريكية. قبل هذا السفر الأخير في حياة الشاعر، كان درويش قد كتب مرثاته بنفسه، لم يترك الفرصة للراثين ولا لأدعياء المناسبات كي يتقولوا في موته. لقد كتب وقائع موته بعناية، والجليل الذي خرج منه مطرودا في أول الشباب ها هو يعود إليه في وصيته الأخيرة التي تركها للعائلة. في قصيدته الأخيرة «لاعب النرد»، يكتب محمود درويش اللحظات الأخيرة من حياته، يتحدث إلى الموت ويكلمه، يحاول أن يؤنسنه وأن ينزع عنه صفته الشرسة. وفي القصيدة يروضه، ويقول له إنه المنتصر في النهاية، لكن من يأمن جانب موت، فلكي تتحداه يجب أن تكون نقشا سومريا أو هرما فرعونيا. قبل أن يموت هذا الشاعر الكبير، كان قد تعرض إلى محاولات اغتيال معنوي من طرف شعراء الصف الثاني في البلاد العربية، وفي بلده فلسطين المحتل والمتقاتل. في آخر حوار منشور أجراه درويش وهو على قيد الحياة، كان الحوار الذي أجريته معه قبل شهر ونصف، عشية نيله لجائزة «الأركانة الشعرية» التي يمنحها بيت الشعر في المغرب. وحينما هاتفته على رقم هاتفه في عمان، جاءني صوت الشاعر صافيا ورائقا، كان الشاعر حسن نجمي رئيس بيت الشعر قد أخبرني بأن الأزمات القلبية قد عاودت الشاعر، وأن وضع قلبه ليس على ما يرام. ولذلك وفرت الكثير من الأسئلة على الشاعر، وقلت ليكن مجرد حديث خفيف. كان محمود درويش في ذلك الصباح في غاية الأريحية، وعلى خلاف المتوقع سار الحديث سهلا وهينا، هو المتطلب والصعب في محاورته، لم يعد بحكم الخبرة الطويلة التي اكتسبها في الحياة وفي الكتابة، يسمح بالاقتراب السهل منه. في ذلك الصباح أعتقد أنه كان مغتبطا، وربما جاءه هذا الإحساس اللذيذ بأن يتحدث إلى مكالمة غير متوقعة، وهكذا بدأ الحديث من الشعر والمقاومة وصراع الأجيال، لينتهي إلى الصراع الدموي اليومي بين الأشقاء في فتح وحماس. قال لي إنه لا يفهم لماذا يدور كل هذا الصراع بالحديد والنار، فلا الأرض تحررت، ولا الدولة الفلسطينية قامت، فمازال الفلسطيني يقتل ويجوع وينفى، ومازالت الجرافات الإسرائيلية هي ذاتها، والعدو لم يغير أفكاره، ومازال الفلسطينيون في رحلة عبور يومي من أجل الخبز والحياة في أرض الله الواسعة. حساد النجاح طاردوا درويش، وحساد الشعر طاردوه، والمخبرون بحثوا في قصيدته عن «عبرانية» ما، ومرغوا «رثا» في التراب، ومسلحو الجبهة الشعبية وفتح وحماس، كانوا يريدونه أن يظل يوميا «ينبح» بشيء يشبه الرصاص أو تمارين المسلح، كانوا يريدونه أن يكون مجرد نشيد بسيط في تحية العلم، هو الذي سخر من كل الأعلام. وداعا أيها الشاعر، والغبطة لك.