بينما نحن جلوس حول المائدة، نرتشف الشاي ونتجاذب أطراف الحديث، حكى لنا ابني الأصغر نكتة قال فيها: قال أحدهم لصديقه: تصور أنني لم أكذب في حياتي سوى مرتين، أجابه الصديق: وهذه هي المرة الثالثة!... إن الناظر حوله يجد آفة الكذب في كل مناحي الحياة حاضرة بقوة، حتى أصبحت بضاعتها رائجة بينما باتت بضاعة الصدق كاسدة، إلى حد أنه صار «من رابع المستحيلات» التفريق بين الجد والهزل وبين الحق والباطل وبين الواقع والخيال. تحضُرني هذه الخاطرة لأنني دهشت لكثرة الكذب والنفاق في علاقات الرجال بالنساء. لا أنكر أن بعض الكذب أحيانا يكون محمودا، عندما يكون وسيلة للوصول إلى أهداف نبيلة، كالصلح وجمع شتات الأسرة واستعماله لستر العورات وتهدئة الروع... والحق أن أغلبَه مذموم، يجلب لصاحبه الويلات ويوقعه في الخسارات التي لا تحمد عقباها. إن أكبر الكذابين شباب يستعملون هذا الأسلوب لاستمالة الفتيات فيُسقطون في حبالهم شباكهم الفتاة تلو الأخرى بالكلام المعسول، الذي لا يتعدى طرف لسانهم، بترديدهم: «لم أر أجمل منك!» أو «أنت أول امرأة يدق لها قلبي حبا وغراما!» أو «أترى البدر قد نزل أم صار لدى الناس قمران!»... وغير ذلك من العبارات المنمقة التي لا تنخدع لها إلا الساذجات. والحقيقة أن الرجل لا يصدق في أغلب مشاعره نحو المرأة، لأن الجاذبية الجنسية تغطي على كل الجوانب الأخرى للعلاقة الثنائية. والرجل لا يكون صادقا إلا عندما يبدأ في العلاقة الحميمية البحتة، حيث يعبر الانتصاب عن حقيقة الإثارة ويعبر القذف عن بلوغ الذروة، وهذا كله يرى بالعين المجردة ويستحيل في هذا الأمر الكذب أو التظاهر بغير الواقع. وقد رأيت المرأة تحب بكل جوارحها، بصدق واستماتة وتضحي بالغالي والنفيس من أجل محبوبها، فتعطيه الجنس الذي يحبه ولكن في أغلب الأحيان لا يساير الشريك مسار الإثارة عند المرأة فيبلغ ذروته قبلها، فتضطر المرأة للكذب، حتى لا يحس الرجل بالعجز وعدم القدرة على إعطائها المتعة التي نالها منها. والمرأة تتقن هذه «التمثيلية»، فتجدها تتأوه وتتلوى وتئن وتصيح كأنها قد تسلقت سلّم السماء السابعة من المتعة واللذة، بيد أنها، في الواقع، لا تحس بذلك بتاتا. إن هذه «اللعبة /الكذبة» التي تزاولها المرأة في بداية علاقتها سرعان ما تنقلب عليها، كما ينقلب السحر على الساحر، فتصبح حبيسة مسرحية تعيسة لا تستطيع أن تنزل من فوق خشبتها، فهي إما تعترف للرجل بذلك فتجد منه الغضب وربما الهجران، لشناعة فعلتها، أو تبقى على ما هي عليه وتربح رضاه وتخسر حياتها وأكبر ملذاتها... ويصبح هذا الأمر أكثر فظاعة وخطورة عندما يمارس الزوج على زوجته بعض الشذوذ المؤذي والمحطم لها، سواء على المستوى الجسدي أو النفسي، فتكذب المرة تلو الأخرى، لإرضائه أولا، ثم تصبح بعد ذلك مسربلة بسربال التحقير والهوان، وهي تظهر العكس تماما. وعندما يطول بها العذاب والألم، قد تضطر لكذبة أخرى، وهي كذبة «الوفاء».. وفي الواقع، تزور فراش العشيق بحثا عن اللذة الحقيقية والمتعة الجسدية المفقودة في عش الزوجية. يأتيني، أحيانا، بعض المشتكين من النتائج الوخيمة للكذب في العلاقات الزوجية، فلا أجد لهم حلا إلا أن أذكرهم بدرس في الابتدائي الأول في مادة الأخلاق «الكذب حرام وآثاره وخيمة».. حتى وإن ظهر الكذب، في البداية، سهلا وثماره قريبة وحلوة، فإن حبله قصير ومنحدره خطير. ومهما كان الصدق صعبا، فلا تظلم الصدق ولا تسئ الظن به، وكن أحرص الناس على ولائه ومودته، إياك أن يخدعك عنه خادع، واصبر قليلا، يثمر لك غرسه ويمتد عليك ظله، وهناك تجد في نفسك من اللذة والغبطة ما لو بذل فيه ذوو التيجان تيجانهم وأرباب الكنوز كنوزهم لَما استطاعوا إليه سبيلا... د. مصطفى الراسي - استشاري علوم جنسية [email protected]