كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. أما شبه الجزيرة العربية فكانت شيئاً آخر تماماً. لقد خلقت الانقسامات القبلية التي تجاهلتها الإمبراطورية العثمانية جلّ الوقت سيادات متعددة في المنطقة. ورغم أن آل سعود، المدعومين من لدن البريطانيين، قد استحوذوا في النهاية على شبه الجزيرة، فإن اكتشاف النفط وإنشاء الشركة النفطية الأمريكية العملاقة «أرامكو» و«قاعدة القوات الجوية الأمريكية» الضخمة في مدينة الظهران هو الذي حافظ على وحدة المملكة العربية السعودية وجعَلها معقِلا للرجعية العربية. الإمبريالية والنفط ثم، بعد 1948م، إسرائيل هي العوامل الثلاثة التي أعطت شحنة قوية للقومية العربية. وقد منحها وجود الاتحاد السوفياتي سنداً يمكنها التشبث به في اللحظات العصيبة. ولولا وجود الدولة الصهيونية، من المحتمل أن تكون القومية العربية قد اختفت مع انسحاب بريطانيا وفرنسا من المنطقة وحل محلها دفاع كل بلد عن مصالحه الوطنية. المنافسة بين مصر والبعثيين في سوريا والعراق أضعفت الدول الثلاث معاً. الضربة النهائية للقومية العربية كان يتم إعدادها في تل أبيب. جردت نكبة 1948م الفلسطينيين ممن يتزعمهم وعرّضتهم للشتات. لقد صارت حياتهم، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تتحكم فيها الدول العربية بإحكام. وتطلبَ الأمر من جامعة الدول العربية خمس عشرة سنة لتتفق على إنشاء «منظمة التحرير الفلسطينية». لكن المقصود من ذلك هو تشكيل الوحدات الفلسطينية المندمجة في جيوش سوريا والعراق والأردن ومصر. في العواصم العربية، بدأت فصيلة جديدة من فلسطينيي المنفى في تطوير وعي جديد سيزداد حدّة مع أحداث 1956م والقطبية التي سوف تلي ذلك. يتعلق الأمر بشبان وشابات، بصغار وصبيان 1948م، لا يحتفظون بذكريات مباشرة عن التطهير العرقي. ترعرعوا وهم يسمعون روايات حول الكارثة فنمت لديهم ذاكرة جماعية أقوى لكونهم لم يعيشوا تجربة الهزيمة بصورة مباشرة. على غرار باقي العالم العربي، انقسم أولئك الفلسطينيون إلى قومِيّين وماركسيّين، ولكن، على خلاف العالم العربي، كانت التيارات الدينية في أوساطهم متناهية الصغر. وقد شهدت هاته الفترة ظهور حركة «فتح» التي كانت تقف إلى يسارها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ولاحقاً «الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين». الاختلاف فيما بينها كان حول استراتيجية النضال. كانت «فتح» تؤيد قيام الفدائيين الفلسطينيين بعمليات مباشرة ومستقلة ضد إسرائيل، بينما كان خصْماها يَريان أنّ استرجاع فلسطين لن يتأتى إلا عبر سلسلة من الثورات الاشتراكية في الدول العربية. في 1965م، بدأ فدائيو «فتح»، المدعومون من طرف حزب «البعث» السوري، بتنفيذ عمليات فدائية داخل إسرائيل. فقرر الزعماء الصهاينة الردّ بالهجوم. الدعم الاقتصاديّ والعسكريّ (الذي يتضمّن أسلحة كيماوية)، الذي تلقته إسرائيل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وألمانيا الغربية، ساعدها على إنشاء أقوى قوة جوّية في المنطقة. ارتفع عدد السكان ومعه عدد الجنود. القيادة العليا الإسرائيلية كانت على يقين من أنها تستطيع الاستيلاء على باقي الأراضي الفلسطينية دون أن تتعرض إسرائيل لأي خطر. سوريا ومصر والأردن وقعن على اتفاقية عسكرية تقضي بالدفاع المشترك عن أراضيهن. في خامس يونيو 1967م، هاجمت القوات الإسرائيلية مصر ودمّرت قواتها الجوية تدميراً كاملا. وفي غضون ستة أيام، استولت المُدرَعات الإسرائيلية على القدس والضفة الغربية من الأردن واحتلت هضبة الجولان في الجنوب السوري واستولت على سيناء إلى حدود قناة السويس في مصر. لقد كانت تلك هزيمة شاملة، نكبة ثانية، بمزيد من العواقب على المدى البعيد. سقطت القدس. وصارت الآن بعض أهم الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية تحت سيطرة اليهود. وخلفت الكفاءات العسكرية الإسرائيلية صدى قوياً لدى المسؤولين في وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين. لقد أثبت لهم الكيان الصهيوني أنّه يملك من الاستقرار والقوة في المنطقة أكثر مما كانوا يتصوّرون. فطرأ على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تغيّر هائل، بحيث أصبحت إسرائيل هي الحليف الأول للولايات المتحدةالأمريكية في المنطقة. وهذا الواقع سيزكيه تحوّل هائل نحو إسرائيل من لدن السكان اليهود في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وماذا عن الفلسطينيين؟ مع الاحتلال الإسرائيلي لها، أصبحت آخِر المعاقل الفلسطينية، القدس وغزة والضفة الغربية، تحت الحكم المباشر لتل أبيب. اعتباراً لانتصاره الحربي السريع، كان بمقدور النظام الإسرائيلي أن يقترح حلا يفضي في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، إلا أن نشوة النجاح أعمت بصره. ردّت الدول العربية المنهارة نفسياً من جَراء الحرب على ما حدث برفضها الاعتراف بالاحتلال. وغادرت أعداد كبيرة من الفلسطينيين بيوتها إلى مخيمات للاجئين أعِدت على عجلٍ في الأردن وسوريا. حرب 1967م دمرتِ الفكر الناصري (الناصرية) بصفته قوة شعبية مضادة للإمبريالية في الشرق الأوسط. في تاسع يونيو 1967م، بعدما تبينَ للعالم العربي بأسره حجم الكارثة، توجّهت عصابات تحمل أفكار «جماعة الإخوان المسلمين» إلى السفارة السوفياتية. حمّلوا موسكو مسؤولية الكارثة، واعتُبر إحراق سفارتها بمثابة استهلال للصحوة. بعض أعضاء النخب الحاكمة سابقاً لم يضيعوا الوقت، حيث قاموا بتدبير مؤامرات عديدة بمعية ضباطٍ في الجيش. قبل ذلك بعامين، وضعت السلطات العسكرية الأندونيسية خطة لقهر اليسار، فتم القضاء على أكبر حزب شيوعي في دولة غير شيوعية في العالم. مات مليون شخص. قوبل هذا الحدث بالترحاب من طرف الإسلاميين والوكالات المحلية العميلة للولايات المتحدةالأمريكية عبر كل أرجاء العالم الثالث. في القاهرة، حلمت «جماعة الإخوان المسلمين» بالثأر. فالوقت مناسِب للإطاحة بفرعون وتصفية أتباعه. كما سعت مجموعات يمينية سلفية إلى إلغاء «خمس عشرة سنة من الاشتراكية». كان هؤلاء يعلمون أنّ الغرْب سيقدم لهم الدعم المادي لجعل النفط «آمناً» من جديد، واسترجاع مصر ثم إنزال العقاب بسوريا والعراق إلى أنْ يعودا إلى بيت الطاعة.