تنظيم القاعدة وأسطورة أسامة بن لادن لم يكونا مجرد عنوان لنجاح مغامرة للتمرد والعصيان؛ ولا تطورا استثنائيا لعمل «خارج عن القانون» مما ألفته الدول والحكومات، بل إن شبكة أسامة بن لادن كانت إمبراطورية حقيقية، تتجاوز في مداها أسلوب عمل «المافيات» التقليدية والتي اعتادت الحكومات على «التعايش» مع أنشطتها بمراقبتها عن بعد والتدخل بين الفينة والأخرى للجم تحركاتها. وما يزيد من خصوصية «القاعدة» أن أعتى الاستخبارات العالمية كانت «عاجزة» عن رسم خارطة امتداداتها المالية وفروعها الاقتصادية. و في أبسط تفاصيل إمكانات القاعدة المالية وممتلكات زعيمها أسامة بن لادن، كان التضارب صارخا في تقديرات الاستخبارات والحكومات، إذ يكفي أن تقدير إرث أسامة بن لادن من ثروة والده يختلف ليتراوح بين خمسة وعشرين مليون دولار وثلاثمائة مليون. ورحيل بن لادن عن العربية السعودية مستهل التسعينيات، واستقراره في السودان مستثمرا «جل» ثروته هناك، لم يكن كافيا لوضع جرد دقيق بإمكانات القاعدة المالية، ولا حتى خروجه من السودان مع ما شكله من خسارة كان نهاية لقصة الإمبراطورية المالية. «قال لي حليف سابق لأسامة من اليمن إنه كان يسافر إلى جدة بوتيرة منتظمة في العام 1990، للعودة بحقائب مليئة بالأوراق النقدية التي كانت توظف في ترويج مشاريع بن لادن الإسلامية في اليمن... حديثنا حول المسائل المالية اتخذ سياقا تبين خلاله أن محاوري اليمني كان يعني بوضوح تام أنه لم يكن يكشف في كلامه أمرا غير عادي أو سرا من الأسرار، فالنقد هو النقد، وهو الوسيلة التي كان يتم التعامل بها سواء كانت العملية المعنية تتم في الخفاء أو في العلن. الحدود الرسمية لم تكن سوى خطوط على الخريطة، لا حقائق قائمة على الأرض، وفي كثير من الأحيان لم تكن هناك حدود مرسّمة، هذا مع العلم بأن القبائل لم تكن تميز حدودا وكانت تعيش على طرفي الحدود السعودية-اليمنية (كذلك كان حال الباشتون على الحدود الباكستانية-الأفغانية، الخط الوهمي-الاصطناعي الآخر الذي تجاوزه أسامة تكرارا في الاتجاهين في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي). والحقيقة أن الحدود اليمنية-السعودية البالغ طولها ألفا وثمانمائة ميل كانت سهلة الاختراق، ليس فقط بحقائب محشوة بالأوراق المالية وإنما أيضا بالأسلحة والمتفجرات والرجال الهاربين من وجه السلطات في بلادهم. وما الحدود اليمنية-السعودية سوى واحدة من عشرات الحالات المشابهة في أرجاء العالم الثالث» يقول مؤلف كتاب «أسامة»، الأمريكي جوناثن راندل. تلك كانت البداية، أما اجتياز تجربة الحرب الأفغانية، والانتقال من مواجهة السوفيات الآخذين في الضمور واستهداف العملاق الأمريكي في عقد التسعينيات، مع ما عرفته هذه المرحلة من تطور تكنولوجي ونمو في المعاملات المالية الدولية، وظهور أشكال جديدة للاستثمار وتداول رؤوس الأموال وتحويل الأرباح وسهولة تدفقها عبر القارات وأسواق البورصة العالمية؛ فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدا وأكثر صعوبة على عملاء الاستخبارات للضبط والإحصاء وتتبع المسارات. أضف إلى ذلك أن منطقة الخليج العربي أصبحت في تلك المرحلة منبعا لا ينضب لأنهار متدفقة من الأموال والرساميل المتنامية، تغذيها الطفرة النفطية التي تحققت في عقد السبعينيات، واكبها توافد غير مسبوق للعمالة الأجنبية، خاصة من دول جنوب شرق آسيا، مع ما يعنيه ذلك من حركة تحويل هائلة للأموال من دول الخليج إلى البلدان الأصلية لهؤلاء العمال، تحويلات قدرت إبانها بعشرات الملايير من الدولارات، فنمت بذلك شبكة دولية هائلة لإخراج الأموال وتحويلها نحو كل أقطار العالم، وإيصالها بكل دقة إلى أهدافها، التي يفترض أنها عائلات العمال الأجانب. لتنمو على جنبات هذه البحيرة المالية، الآخذة في الاتساع، طبقات من الطفيليات والتعاملات المشبوهة، عملت على تأمين مرور الأموال المشبوهة عبر الحدود، وتغذية الأنشطة الهامشية من تجارة للمخدرات والأسلحة وتبييض للأموال وغيرها من الأنشطة؛ ما يعني أن الشبكة الهائلة اتسعت ما يكفي لاستيعاب جل عمليات تحويل الأموال، الشرعي منها وغير الشرعي، العلني والسري. من جانب آخر، كان الوازع الديني حافزا على نمو نشاط آخر لرواج الرساميل وتدفقها بين مختلف أقطار العالم، ويتعلق الأمر بالأعمال الخيرية والإحسانية. فباتت الجمعيات والمؤسسات الإحسانية تتكاثر في منطقة الخليج وتفتح لها فروعا في مختلف أقطار العالم، حتى في قلب واشنطن ونيويورك. ورغم أن أصابع الاتهام توجهت في وقت مبكر نحو هذه المؤسسات، أو بعضها على الأقل، بتغطية أنشطة مالية غير معلنة تضمن تمويل المشاريع «الجهادية»، إلا أن التشريعات الغربية لم تكن تسمح بكثير تدخل، قانونيا كان أو تعسفيا، وكان إقدام إحدى الصحف الأمريكية أو البريطانية على التلميح بالاشتباه في إحدى المؤسسات الخيرية وعلاقتها بتمويل المجموعات الإسلامية المتشددة يؤدي بها إلى التفاوض حول ثمن أقل لاتهامها، بدل اللجوء إلى القضاء وتحمل أحكامه. و«لعل من التفسيرات التي قد توضح أسباب تدفق المال الخليجي باتجاه أسامة، كونه كان مدركا أنه يرضي العرب، وكثرةٌ سواهم من المسلمين، عندما وصف العسكر الأمريكي بأنهم نمور من ورق، مشيرا إلى انسحابهم الفجائي والفوري من بيروت ومقاديشيو برهانا على صحة هذا التوصيف» يقول الأمريكي جوناثن راندل الذي يضيف في فقرة أخرى أن الاعتماد على قوة المال «لم يكن نهجا جديدا على أسامة، فهو قد أفرد له موقعا متميزا منذ إقامته الأولى في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي، فلكي يسهل وصوله إلى الخرطوم قدم إلى الترابي بضعة ملايين من الدولارات نقدا فور مجيئه وتثبيت مواقعه، ثم شق طريقا عاما وعبّده دون أي مقابل تقريبا». لكن ما كان يحمي ظهر أسامة بن لادن في كل ذلك، ليس هو ثراؤه ولا كثرة علاقاته مع أثرياء الخليج وتعاطفهم معه، ولا حتى دهاؤه، بل إن تكتما شديدا وحرصا كبيرا من طرف دول الخليج وخاصة العربية السعودية حول هذا الجانب لعبا لصالحه، ليس تعاطفا مع تنظيم بن لادن، ولا حماية للمقربين منه، وإنما لحساسية شيوخ الجزيرة حيال إعلان ثرواتهم وحساباتهم، وخوفا من اكتشاف تورط بعضهم في تعاملات تغضب «العم» الأمريكي.