يشير الأستاذ عبد الله العروي في كتابه «في ديوان السياسة»، إلى أن المشهد السياسي في المغرب قلق وملتبس ومزدوج، فمن جهة يعد المغرب من البلدان الثالثية القليلة التي حسمت منذ الاستقلال في اختياراتها السياسية لصالح اقتصاد السوق والفكر الليبرالي والتعددية السياسية عندما كان حكم الحزب الواحد موضة سياسية في بلدان أخرى، وحاليا يعد المغرب من البلدان الثالثية القليلة التي نجد فيها النظام يعلن صراحة تبنيه لمقولات الحداثة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها حالة الاستقرار الدستوري الذي يعيشه المغرب إذا ما قورن بعالم عربي يغير فيه الدستور كما تغير المعاطف، وتعدل حسب الأمزجة، وبمقابل هذه المزايا، نجد الدستور المغربي لا يحسم في الاختيار، فهو قابل لتأويلات متناقضة، فالمحافظون يجدونه معبرا عن آمالهم، والديمقراطيون أيضا، حتى إن المحافظين يقول الأستاذ العروي، يؤولونه وكأننا في دولة إمامة، والديمقراطيون يؤولونه وكأننا في دولة إسكندنافية.. هذه هي الحالة المغربية.. الحالة المغربية موضوعا للتأمل استطاعت السلطة السياسية في المغرب أن تكتسب مرونة وقدرة على التكيف في محاولة منها للتماهي مع مؤسسات الحداثة السياسية، هكذا كان النظام المغربي سباقا، منذ الاستقلال في المنطقة العربية على الأقل، إلى اختيارات سياسية وحقوقية واقتصادية مثل «الاقتصاد الحر» المستند إلى الفكر الليبرالي، وكذا «التعددية السياسية» المستندة مبدئيا إلى الممارسة الديمقراطية، ثم إقرار حقوق الإنسان في صيغتها العالمية دستوريا، وهي اختيارات كانت تعد إلى عهد قريب من قبيل «الرجعية» و «الإمبريالية» إلى غير ذلك من الشعارات التي كان الإتحاد السوفياتي عرابها الكبير. لكن، إلى أي حد يمكن الدفاع عن حالة الاستثناء هذه؟ وهل احتفظ نظام العهد الجديد، على مدار السنوات المنصرمة، على روح هذه الاختيارات الإستراتيجية؟ ألا يتم إفراغ المؤسسات الديمقراطية عندنا من مضامينها -المتمثلة في خدمة المواطنين- بالممارسات القضائية والتنفيذية المستندة إلى تأويلات تدعي الدفاع عن مقدسات الله والوطن والملك؟ بديهي القول إن الحالة السياسية المغربية لها خصوصية، لكن هذا يبقى في حد ذاته مجرد تأويل عند من يعتقد بالخصوصية السياسية «للديموقراطية المغربية»، والمستندة - في اعتقادهم- إلى سيادة دينية وتاريخية لا تسمح باستنساخ نماذج الديمقراطيات العريقة، وهذا التأويل الأخير يسمح باستنساخ لامتناه للخطوط الحمراء، فأن تحكمنا الخطوط الحمراء المتعارف عليها، فهذا مما يمكن أن يضمن إلى حد ما سلامة نظامنا السياسي من مهازل أحزابنا السياسية المندفعة إلى كراسي الوزارات والدواوين، ويصون حالة الاستثناء التي بات يشكلها المغرب من ناحية الاستقرار السياسي، لكن أن تؤطر تأويلات الخطوط الحمر أحكام قضاتنا وقرارات حكومتنا، فهذا مما يهددنا بالرجوع إلى نقطة الصفر الرهيبة، سواء حقوقيا أو سياسيا وحتى اجتماعيا.. إننا نحمي الديمقراطية بالديمقراطية، تماما كما نحمي حقوق الإنسان بحقوق الإنسان، ونحمي القانون بالقانون، وهذه هي الروح التي ينبغي أن تشكل قاعدة لتوافق الجميع، لأن هذا هو أساس ما يعرف بدولة الحق والقانون، أما حماية الحقوق الفئوية بانتهاك الحقوق الشعبية، وحماية القانون بانتهاك القانون، والممارسات القمعية المستندة إلى تأويلات غير بديهية للخطوط الحمراء، فهذا هو العنوان الأبرز لسنوات الرصاص المشؤومة.. هكذا تنفرط إحدى عشرة سنة من عمر نظامنا السياسي الجديد، فما تحقق على جميع المستويات ضخم ولا ينكره إلا تجار اليأس المنتفعون من يأس الغوغاء والجياع، لكن ما ينتظرنا أكبر من أن نحققه بالوتيرة الحالية، خصوصا أمام التفاوت المسجل اليوم على نحو واضح، إن لم نقل صارخ، بين وتيرة الإصلاحات التي يدشنها الملك كل حين، والوتيرة التي تستجيب بها طبقتنا السياسية ذات النفس السياسي الموسمي.. وأملنا أكبر في الآتي أن تتلو كل هذه الأوراش الكبرى المفتوحة اقتصاديا واجتماعيا وتربويا، خطوات شجاعة في اتجاه تعزيز ديمقراطية نظامنا السياسي بعيدا عن كل أشكال الانتهاك التي يخلفها هواة التأويل ومحترفوه من القضاة والساسة، فحيث يعم الالتباس تنتعش تجارة هؤلاء ويبدؤون رقصهم المجنون على أعتاب المقدسات.. مقدساتنا جميعا. الشعور الوطني نتيجة أم معطى؟ المواطنة أو الحس الوطني أو الشعور بالانتماء إلى الوطن، هي مفاهيم تحيل إلى مقام تكون فيه العلاقة بين المواطن ووطنه علاقة وثيقة، وهي نتيجة لبناء مستمر وعملية تصحيح مسترسلة، فعندما يضمن المواطن الحد الأدنى من حقوقه الأولية في وطنه وعلى أرض وطنه، فإنه من الطبيعي أن يشعر بأن الانتماء إلى هذا الوطن امتياز يتوجب المحافظة عليه والذود عنه بالغالي والنفيس، أما عندما يصبح المواطن عالة على وطنه، ويلجأ المسؤولون، بمختلف الرتب، إلى التملص من واجباتهم والتلاعب بحقوقه، فإن انتماءه للوطن يصبح مجازا أو شرا يجب الفرار منه، فلا عجب إن كان أغلب المغاربة يفكرون في الفرار، البعض يفر بالهجرة تحت أي مسمى، إذ المهم هو الفرار، والبعض يفر إلى المخدرات وكل الوسائل المشجعة على الهلوسة، أما آخرون فيفضلون الفرار لكن إلى تيارات معادية لوطنهم، باسم العرق الصافي أو الدين النقي، وفي كل هذه الحالات الجميع يفكر في الفرار، لأننا بصدد دولة لا تبني المواطنة وتسعى إلى ضمانها، بل الأصح في عرف دولتنا هو أنه ليس كل كائن يسمى مواطن، فالانتماء لهذا الوطن ضريبة. لذلك هناك فرق كبير، وعلى هذا المستوى بالضبط، بين دولة المواطنة ودولة الرعايا، فبما أن السيادة في دولة المواطنة تختصرها المؤسسات المنبثقة عن الشعب، فإن غايتها هي قيام الحق والعدالة والإنصاف على أسس غير قابلة للتكييف والاختزال والانتقاء وما إلى ذلك من مبررات الاستبداد، وهي عندما تضمن هذا فإنها تضمن بالمقابل ولاء المواطنين. وتاريخ الأنظمة السياسية مليء بعبر تظهر أن بلوغ غاية الحفاظ على سيادة الدولة من أعداء الداخل والخارج لا تضمنه إلا وحدة الصف الداخلي، وهذه الوحدة المسنودة بقوة الحس الوطني وعواطف الانتماء للوطن، ليست معطى جاهزا يجبل الناس عليه، كما تحب بعض التحليلات الرومانسية الركون إليه، بل هو بناء مستمر وقيمة عليا تخضع لعمليات مستمرة من التصحيح، أي عندما يعيش المواطنون فعليا نعمة الانتماء إلى وطنهم، لكن عندما تكون سلامتهم معرضة دوما للخطر، وعندما يكون شعورهم بالأمن مهددا، وحين تكون ثرواتهم معرضة دوما للنهب دون مساءلة، وحين يكون مستقبل أبنائهم مضمونا.. لكن في أوطان غيرهم، وحين يكون رد الاعتبار إليهم في القضاء غير مكفول، عندها يصبح الحديث عن الوطنية والانتماء للوطن مجرد كلمات جوفاء تصلح للنسيان أو تلحن في أغاني المناسبات.. وتنسى ككل ما فيها. فقبل أن تكون المواطنة قيمة ثقافية تلقن في الفصول التعليمية وتعمم في البرامج الإعلامية للمواطنين، وقبل أن نطلب من تلامذتنا حفظ كلمات النشيد الوطني ونطلب من الجميع الوقوف احتراما لجلال قدره، فإن هذا يفترض أولا أن تكون المواطنة في ممارسات رجال الدولة والقيمين على سلطها ومؤسساتها قيمة سلوكية نموذجية، وثانيا أن نمنح لهذا المواطن بعضا من نعم الانتماء لوطنه، قبل أن نطلب منه الواجب علينا أولا أن نمتعه بالحق، الحق في التعبير الحر، الحق في السكن، والشغل، والأمن، والملكية، والحق في الإنصاف... بعد كل هذا تصبح الدعوة للمواطنة من قبيل تحصيل حاصل، لأن المواطنين سيهبون جميعا للذود عن مقدساتهم، وأولها مقدس المؤسسات التي تضمن لهم فعليا مواطنتهم الكاملة.. أما أن تصبح هذه الحقوق الأولية أمرا عزيزا وغير مضمون، لأنها حكر على أقلية محظوظة، فإن خطورة هكذا وضع تتجلى في كون الأجيال الشابة من المغاربة اليوم أصبحت ضحية لهلوسات جماعية بالهجرة، هذا بالرغم من كون أوروبا لم تعد حلما فردوسيا اليوم على الأقل، ثلث يحلم بالهجرة عبر الجغرافيا، وثلث اختصر الجغرافيا واستقدم أوروبا إليه لكن بالمخدرات ومختلف وسائل التخدير، وثلث أخير آثر الهجرة إلى تيارات سياسية لبوسها حقوقي أو ديني أو عرقي.. لكن وفق أجندات معادية لكل مقومات الوطن. لنطرح السؤال الصعب التالي: ما هي نسبة المغاربة الذين هم على استعداد للتضحية بأنفسهم لصالح وطن بهذه المواصفات التي يرونها يوميا في مستشفياتهم ومحاكمهم وإداراتهم ومقرات عملهم ومدارسهم.. وشوارعهم العامة؟ من مِن عموم المغاربة يشعر بالاطمئنان التام اتجاه مستقبل أبنائه؟ من مِن عموم المغاربة على يقين من أنه سيلقى العناية التي يستحقها إن هو أصيب بمرض دون أن يفكر في شخصية نافذة في قطاع الصحة؟ من مِن المغاربة على يقين من أن القضاء سينصفه إن هو تعرض لما يسلبه حقه؟ وهكذا تتناسل الأسئلة المحيرة محلقة على كافة القطاعات دون أن تجد برا للأمان. المواطنة والديمقراطية إن المواطنة شعور رفيع، يتم بناؤه بإعلاء شأن المواطن، والتصدي لكل مظاهر المحسوبية والزبونية، ووضع حد لنهج الانتماء العائلي والجهوي في الحكم وفي مؤسسات الدولة، ونبذ توظيف المقدسات مهما كانت لأغراض سياسوية وإبقائها في منأى عن التنافس والصراع السياسيين، ونبذ أشكال التعصب الديني والمذهبي والعرقي والمجالي، فبدون الإعمال الفعلي للمواطنة يصعب الحديث عن توجه لإقامة دولة القانون والمؤسسات، فضلا عن الشروع ببنائها، والحاجة قائمة لتأمين شروط بناء الدولة الديمقراطية العصرية، دولة القانون والمؤسسات الدستورية، التي تقوم على مبادئ فصل السلطات، واستقلال القضاء، والتعزيز المطرد لدور الرقابة البرلمانية، واحترام إرادة المواطنين المعبر عنها ديمقراطياً، بعيداً عن الضغط والإكراه، وتحريم انتهاك حقوق الإنسان، وضمان التمتع بالحريات العامة والشخصية والحقوق التي يكفلها الدستور. إن المواطن المغربي يتطلع منذ عقود إلى إعادة الثقة في مؤسسات الدولة وتقويم بنائها، ومراعاة عناصر الكفاءة والنزاهة والإخلاص والوطنية عند اختيار الوزراء وكبار موظفي الدولة، وإسناد الوظيفة العامة بشكل عام، والتصدي المتسق، الصريح والواضح، للفساد المالي والإداري على جميع المستويات، ودعم الهيئات الرقابية المتخصصة في هذا الميدان، وتطوير الآليات والتشريعات التي تحمي المال العام، ولا يمكن الحديث عن مشاريع وطنية دون توجه جدي، إضافة إلى ما ذكر أعلاه، لوضع حد لمعاناة الشعب، وتحسين مستواه المعيشي، ومكافحة البطالة، وتأمين الضمان الاجتماعي، واعتماد نظام عادل للرواتب والأجور، والعمل على تحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير الأساسية منها مجانا، هذه هي مفاتيح تنمية الحس الوطني لدى المغاربة.