كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. كان وزير الخارجية الأمريكي، جون فوصترْ دولسْ، قد أخبر مصر بالقرار يوم 19 يوليوز 1956م. وكان غضب عبد الناصر انعكاساً لمزاج الشارع. وفي 26 يوليوز 1956م، ندد الرئيس المصري في كلمة ألقاها بالإسكندرية بالابتزاز الأنغلوأمريكي قائلا: «دعوا الإمبرياليين يختنقون غيظاً»، ثم مضى ليخبر الحشود المنتشية بأن مصر قد قررت تأميم قناة السويس. وسوف تموّل العائداتُ السدَّ وتستعيد مصر سيادتها على اقتصادها وأرضها. وقد أريدَ لخطاب عبد الناصر أن يكون كالقفاز الذي يضرب (طلباً للنزال) الإمبراطورية البريطانية المتهدّمة على وجهها أمام أنظار الجميع. وبين عشية وضحاها، أصبح عبد الناصر بطل العالم العربي والمناهض للاستعمار. ظهرت انقسامات في صفوف الجيوش بالمنطقة، وتخوفت الرؤوس المتوَّجة من حدوث الأسوإ، وشاهد الساسة الموالون للغرب رد الفعل الشعبي فبدؤوا يرتعدون. كيف سيردّ الغرْب؟ الوزير الأول البريطاني، السِّيرْ أنطوني إيدَنْ انتقد الزعيم المصري ونعته ب «هتلر النيل». كان عبد الناصر يعرف البريطانيين جيداً. وعليه، كان يدرك بأن ردهم الغريزي الأول سيكون عبر دبلوماسية السفينة الحربية. كما كان يعرف بأن إسرائيل ستُستعمَل من قِبل الغرب، فأرسل رسالة إلى الوزير الأول الإسرائيلي، موسى شريتْ يعرض عليه فيها تسوية سلمية معقولة، شريطة أن تبقى إسرائيل خارج الصراع القادم. تلقى شريتْ العرض ببعض الاعتبار، لكن بن غوريون اشتم رائحة الدم، فإذا بالعرض يُرفض بازدراء. بدون أن يحصل على ترخيص من واشنطن، خطط الوزير الأول البريطاني المحافظ أنطوني إيدَنْ وحليفه في المؤامرة الفرنسي الاشتراكي غِي موليه و الصهيوني المتحمس بن غوريون لِغزو مصر واحتلالها. وفي 29 أكتوبر، هاجم الجيش الإسرائيلي شبه جزيرة سيناء. ويومين بعد ذلك، نزلت قوات محمولة أنغلوفرنسية بالمظلات داخل منطقة قناة السويس. وقد لقيت هاته العملية تأييداً شفوياً من تركيا وإيران وباكستان. ومع انهيار الجيش المصري، أرسل الاتحاد السوفياتي إنذاراً إلى القوات المحتلة الثلاث. وفي الغد نفسه، تم إيقاف العملية العسكرية. وفي الأسبوع الموالي، هاجم الرئيس الأمريكي آيزنهاور علانية الدول الثلاث التي تجرأت على القيام بهذه العملية من وراء ظهر واشنطن، وصرح قائلا: «لا يمكننا أن نصفح عن الاعتداء المسلح ولن نفعل». وفي 22 دجنبر، جلا الجنود البريطانيون والفرنسيون عن بورسعيد. خسر عبد الناصر المعركة ولكنه ربح الحرب. وكانت هديته للمصريين بمناسبة حلول السنة الجديدة هي تأميم كل البنوك الأجنبية وشركات التأمين والوكالات التجارية في ملك المقاولات الأجنبية. وكان عالِم الاقتصاد البولوني أوُسكارْ لانغه قد زار القاهرة قبل حرب السويس بعامين وأقنع القادة العسكريين بأن التخطيط الاقتصادي سيعود بالنفع على البلد وعلى أغلب المواطنين. وقد منحت تداعيات غزو السويس فرصة مزدوجة: عقاب قوات «الحلف الأطلسي»، بريطانيا وفرنسا وتركيا، بمصادرة مقاولاتهم، وفي الوقت ذاته إنشاء الأسس للتخطيط الاقتصادي. عمت الفرحة في الشارع المصري، واستحضرت القاهرة معاني شاعرها أحمد شوقي القائلة: «لقد ذهب صباح الأمل بظلمة اليأس // وأطل علينا الفجر بعد طول انتظار». التفكير الكامن خلف «حرب النفط الأولى» واضح المعالم. كانت بريطانيا وفرنسا تريدان تدمير البديل الوطني الذي تقدمه مصر الناصرية لحماية مصالحها في أماكن أخرى بالمنطقة. خشيت بريطانيا أن تفقد العراق، بينما كانت فرنسا قلقة من نشأة حركة وطنية في الجزائر، والنظام الصهيوني في إسرائيل يسعى لإضعاف مصر ومنع انتشار الأفكار الوطنية الراديكالية. أمّا انعكاسات هذا الاندحار فكان لها وقع معاكس. في فبراير 1958م، اتحدت مصر وسوريا فظهرت إلى الوجود «الجمهورية العربية المتحدة». مثل هذا الاندماج هو الذي كان قد مكن صلاح الدين الأيوبي في القرن الميلادي الثاني عشر من توحيد العرب واسترداد القدس. ذاكرة العرب التاريخية تنفذ عميقاً جداً، مما جعل قلوب بعض العرب تهتز لهذا الخبر. وأعرب كل من اليمن ولبنان عن غرضهم في أن يصبحوا جزءاً من فدرالية أوسع. ولكن الغرب كان بصدد إعداد البديل. المَلكية الأردنية التي كانت آنئذ، ولا تزال إلى اليوم، تشتغل كامتدادٍ لوزارة الخارجية البريطانية أو الأمريكية، دعت على الفور إلى تحالف بين الحكام الهاشميين في الأردن والعراق والوهابيين في العربية السعودية. في الرياض، كان الوهابيون جدّ قلقين من تطورات الأحداث. تم إقناع الملك بتسليم السلطة إلى الأمير فيصل، ولي العهد، الذي رأوا فيه سليل آل سعود القادر، إذا استدعته الظروف، على أن يتوصل إلى اتفاق مع عبد الناصر. في القاهرةودمشق، كان الكلام عن مستقبل جديد، عن منظر مغاير، فقط لو أن إحدى الدول الكبرى المنتجة للنفط صارت جزءاً من «الجمهورية العربية المتحدة». هذا المزيج سوف يوحد شبه الجزيرة العربية في قطب واحد ويضع أسساً صلبة لقيام أمة عربية موحدة، تكون ثرواتها النفطية في خدمة حاجيات الشعب العربي. كان هذا هو الحلم، رغبة لعلها بدت طوباوية غير أنها كانت قريبة من التحقق، وفي وقت أسرع مما تصوره أي أحد. في يوليوز 1958م، أطاحت ثورة وطنية بالمَلكية في العراق. أُعدِم الملك الهاشمي فيصل وخاله المقيت، وامتلأت شوارع بغداد بالحشود المبتهجة احتفاءً باستحواذ عبد الكريم قاسم ومجموعة من الضباط الوطنيين الراديكاليين على السلطة. أصيب الغرب وحلفاؤه بالذهول، وماتت مع المَلكية ترتيباتهم الأمنية بالمنطقة المعروفة باسم «حلف بغداد». صار الآن محور القاهرة-دمشق-بغداد إمكانية حقيقية. بدأ المحرضون السياسيون الموجودون في المحطات الإذاعية بالعواصم الثلاث بحثّ المواطنين الأردنيين على العصيان المدني. كانت الرسالة شعبية: إنهضوا وأسقِطوا مَلكيتكم التي أخذت الأموال من الصهاينة وخدعت فلسطين. إنها بيدق وقح من بيادق الإمبريالية الغربية ويجب الإطاحة بها.