كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. في 1947م، أعاد البريطانيون انتدابهم لهيئة الأممالمتحدة. هذا الجسم المَهيب، الذي يتلقى في الحال التوجيهات من الولاياتالمتحدةالأمريكية والتأييد من الاتحاد السوفياتي، وافق على تقسيم فلسطين. المخطط رفضه العرب وأزعج بريطانيا، التي شعرت بأنها فقدت جزءا من إمبراطوريتها بشكل مفاجئ جداً. صار البريطانيون الآن يمارسون تأثيرهم في العراق ومصر و«ما وراء نهر الأردن» ويشجعون هذه الدول على إرسال جيوشها لإحباط هذا المخطط. كانت لندن تأمل في أن تعم الفوضى فيُطلب منها بسْط سيطرتها من جديد على المنطقة وتدبير انتقال مُنظَم نحو الاستقلال. ولكن الجيش الإسرائيلي، الذي سلحته الحكومة التشيكية بتعليمات من موسكو، فاجأ البريطانيين وهزم الجحافل العربية. وللتخلص من الملك الأردني عبد الله، عرض الزعيم الإسرائيلي بن غوريون عليه نقوداً ونصف الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية) التي حَصّصتها الأممالمتحدةللفلسطينيين. أما النصف الآخر فقد استحودت إسرائيل. قبل الحاكم الهاشمي، المنصَب على العرش من طرف البريطانيين والسليل المباشر للنبي محمد ونجل راعي مكة والمدينة، هاته الصفقة الدنيئة. طلب بأن يكون الأداء نقداً، وأبلغ المبعوث الإسرائيلي بأن «مَن يريد أن يسكر لا ينبغي له أن يَعدّ الكؤوس»، بمعنى أن على الإسرائيليين أن لا يكونوا بُخلاء عند وزن القطع الفضية مقابل حصولهم على نصف فلسطين وحياده الشخصي. وبهذا خُدِع الفلسطينيون شرّ خداع. لقد باعهم ثالوث غير مقدس، مشكَّل من الإمبريالية البريطانية ومجلس الأمن بالأممالمتحدة ومَلك عربي، للصهاينة، الذين وسعوا بلدهم دون أن يخشوا تأنيب الدول العظمى لهم. لقد سخرت الصفقة بين عبد الله والصهاينة من مخطط الأممالمتحدة، غير أن مجلس الأمن لم يفعل أي شيء لقلب المسار. منذ لحظة تأسيس إسرائيل، كان قادتها الصهاينة مصمِمين العزم لإخلاء البلد من سكانه. كانوا يريدون وطناً يتطابق مع أسطورة «أرض بلا شعب» التي وضعوها وهُم لا يزالون في أوروبا. أصبح الفلسطينيون الآن لا-شعباً، شعباً غير موجود. وأولئك الذين لم يكن في الإمكان طردهم عوملوا مثل «بشر دُونيّين». وقد بتر العديد من اليهود هذه الأحداث الكريهة من بنك الذاكرة الجماعية الإسرائيلية. ومع تدمير القرى الفلسطينية وطرد مجموعات سكنية بأكملها، انسحب جلّ مواطني الدولة الجديدة إلى واقع مبني على الادّعاء. وبشرنَقتهم وانعزالهم عن بقية العالم العربي، ظن هؤلاء بأن التأكد من الروايات الفلسطينية أو مراجعة إحصائيات التهجير لن يتم أبداً. وقد نجحوا خلال عقد من الزمن تقريباً في التعتيم على الجرائم التي ارتكبوها أو ارتكِبت باسمهم. لقد خلف جشعُ بن غوريونْ ووحشيته ندباً على المستقبل. فلو بقي داخل الحدود التي رسمتها الأممالمتحدة آنئذٍ، بغض النظر عن الظلم القائم أصلا، لرُبّما كان في إمكان القادة الإسرائيليين وأنصارهم في الشتات أن يجادلوا بشكل مُبرَّر نوعاً ما قائلين إنهم قد قبلوا قرار الأممالمتحدة وسوف يدافعون عن حدودهم ضد كل غاز. وبدل هذا، فعلوا العكس تماماً. تواطؤوا مع عبد الله ليسرقوا أراضي إضافية إلى تلك الممنوحة من طرف الأممالمتحدة، وبدؤوا في تنفيذ التطهير العِرقي الذي كانوا قد قرَّروه قبل سنوات عديدة، حيث ظلت جزءا دائماً من المشروع الصهيوني. فقد كتبَ هرتزلْ في مذكراته عام 1895م يقول: «سوف نحاول أن نُهرّب السكان المعدَمين إلى ما وراء الحدود بتوفير فرص الشغل لهم في دول العبور، في الوقت الذي سنرفض إيجاد أي شغل لهم هنا في بلدنا... عملية المصادَرة وإفراغ الفقراء معاً ينبغي أن يتمّا في كتمان وحذر تامين». ظلت تداعيات فلسطين تتسبّب في حالة من الاضطراب. وبعد عام على مقتل عبد الله (عام 1951م) من طرف شاب فلسطيني، قامت مجموعة من العقداء والرواد والنقباء الوطنيّين، المنضوين تحت منظمة «الضباط الأحرار» غير المشروعة في الجيش المصري، بالانقلاب على عاهِلهم البدين، مُنهين بذلك حكم أسرة محمد علي. سعِد الملك فاروق لكونه لم يتعرض للاغتيال فانصرف في هدوء إلى الريفيرا الفرنسية. بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، أدلى الجنرال البريطاني ألِينْبي بالتصريح الآتي: «يمكن للإنجليز أن يجلوا عن مصر بكل اطمئنان. إنهم خلقوا بالفعل طبقة واسعة من مالكي الأراضي الذين يمكن لبريطانيا أن تعتمد عليهم لتطبيق سياستها في مصر». إلا أن قِصر مدة التواجد البريطاني في مصر، مقارنة مع الهند، صعّبَ أمر زرع النموذج الاستعماري الهندي بنجاح على ضفاف نهر النيل. فذكريات العثمنة المتنورة المرتبطة بمحمد عليّ لم يتم محوها. مُنح أبناء أغنياء الأرياف موقعاً متميزاً داخل الجيش المصري، ولكن في 1936م، ألحّ وزير الدفاع الوطنيُ الليبراليُ الداهية على خلق جيش وطني، مستعمِلا في ذلك الشروط العسكرية المفروضة من طرف البريطانيين كذريعة. وقد أنهى بذلك القيود الموجودة على تجنيد الضباط ودعا طلاب المدرسة الحربية المنتمين للطبقة المتوسطة الحضرية ولأوساط البورجوازية الصغيرة لولوج الأكاديمية العسكرية، ممّا أدى إلى تغير تدريجي في طابع هيئة الضباط وقاعدتها الاجتماعية. كان المُجنَّدون الجُدد متأثرين بإيديولوجيات منبعثة من الوسط المديني (الحضري): التيار الوطني، التيار الإسلامي، التيار الاشتراكي. وسوف يُشكل الطلاب الملتحقون في فترة 1938-1940م الجزء الأكبر من كوادر «الضباط الأحرار». كما أن استيلاء «الضباط الأحرار» على السلطة عام 1952م لم يكن صاعقة جاءت من سماء بدون غيوم. فقد تعرضت الأراضي الإقطاعية الهائلة، بما فيها أراضي العائلة المَلكية، خلال فترة 1949-1951م لموجة من حركات التمرّد على يد الفلاحين. وهاجم الفلاحون في عدد من الحالات ثكنات الحراس ورجال الشرطة بأنواع متطورة من الأسلحة التي لم يكن ليزودهم بها إلا متعاطفون معهم مِن داخل الجيش. والمنظمات الشيوعية هي التي ربطت بين المناضلين القرويين الموجودين على الأراضي الإقطاعية وبين مراكز الصناعة، ثم الثكنات، وإن بحدّة أقلّ. ابتداء من فترة 1944-1948م، نجح الشيوعيون المصريون في بناء نقابات عمالية قوية وإنشاء لجان جبهة موحَّدة في المجال القروي جلبت إليها طلبة ومعلمين للاشتغال مع النشطاء القرويين. كان «الضباط الأحرار» على وعي بجميع هذه التطورات، غير أنهم لم يكونوا طرفاً فيها. واعتبر الانقلاب الذي قاموا به خطوة أولى نحو ثورة اجتماعية في البلد. لقد حركت الإطاحة بالمَلكية النفوس وأطلقت العنان لسلسلة من النضالات الشعبية التي تجاوزت أهداف حتى أكثر ضباط الجيش راديكالية. وقتئذ، كان هناك تياران فكريان رئيسيان في البلد. شعر دعاة الوطنية بالقلق بسبب التأثير الذي كان يمارسه الشيوعيون المصريون على الفلاحين والعمال وشرائح مهمة من النخبة المصرية. وقد تقوت شوكة الشيوعيين أكثر في البلد بعد تعرضهم للقمع على يد النظام السابق. وأمام حرمانهم من إيديولوجية متناغمة يُجابهون بها اليسار، اقترب «الضباط الأحرار» من «جماعة الإخوان المسلمين» الذين كان البعض منهم قد ربط الاتصال بهم. «جماعة الإخوان المسلمين» كانت لها أصول مثيرة للاهتمام. فقد كانت حركة إحيائية شبيهة بالحركات التي قامت في الهند عقب انهيار خلافة إسطنبول في 1924م. قرارُ كمال باشا الجريء بالاستغناء عن مؤسسةٍ تجاوزها الزمن وعاجزة عن إصلاح نفسها والدينُ قسما دار الإسلام. شعر الحداثيون بالرضا، أما رجال الدين المحافظون والمؤمنون التقليديون، الذين كانوا يضعون الطربوش على رؤوسهم تباهياً بهويتهم، فقد شعروا باليتم.