إذا كان الكرواتيون والمسلمون يعتبرونه مجرما، فإن الكثير من الصربيين يرون فيه بطل حرب، ومهما تباينت الرؤيتان حول الرجل، فإن ذاكرة البوسنيين تحتفظ بالكثير من صور الميليشيات التي كان يتزعمها رادوفان كرادجيتش، والتي قتلت ما لا يقل عن 8000 مسلم كلهم من الشبان والرجال في مدينة سربرنيتشا التي حاصرها مدة 43 يوماً عام 1995. قضى كرادجيتش 13 عاما فاراً، الأمر الذي وضع حكومة صربيا تحت ضغوط كبيرة من قبل المجتمع الدولي لبذل المزيد من الجهود لاعتقاله. ويعتبر رادوفان كرادجيتش من أشهر المطلوبين الدوليين بسبب التهم الموجهة إليه بقتل آلاف البوسنيين المسلمين والكروات، وتشمل لائحة اتهامه إضافة إلى جريمة التطهير العرقي، جريمتين هما قصفه لمدينة ساراييفو واستعمال نحو 300 من قوات حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة كدروع بشرية. أجبر كرادجيتش على الاستقالة من منصبه الرئاسي عام 1996، لتبدأ بعدها رحلة فراره، وتمكن من نشر كتاب بمساعدة أحد أعوانه السابقين وهو ميروسلاف توهولج. وكان الضغط الدولي من أجل إلقاء القبض على كرادجيتش قد تصاعد منذ عام 2005، تاريخ استسلام بعض الجنرالات الذين رافقوه، وبعد أن بث التلفزيون المحلى شريطا مصورا يظهر جنود كرادجيتش يطلقون النار على معتقلين خلال الحرب. ولد كرادجيتش في إحدى قرى الجبل الأسود، وكان والده قد انضم إلى حزب «شتنكس» القومي الصربي الذي حارب النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدها أنصار الرئيس السابق ميخائيل تيتو اليساريين. لم ير الطفل رادوفان والده فوك كرادجيتش طوال فترة طفولته بسبب سجن الأب من قبل حكومة تيتو. تصف والدة رادوفان ابنها بأنه كان وفيا جدا ومجتهدا وكان دائما يساعدها فى الأعمال المنزلية وفي العمل في زراعة الأرض، وكذلك تقول إنه غالبا ما كان يساعد أصدقاءه في المدرسة على إتمام فروضهم المدرسية، وعاش فترة شبابه يقرأ كثيرا ويستمع إلى السياسيين، وأبرزهم جمال عبد الناصر ونهرو وخروشوف. في عام 1960، انتقل كرادجيتش للعيش في ساراييفو، والتقى زوجته ليليانا ودرس الطب النفسي، وأصبح بعد ذلك معالجا نفسيا في أحد مستشفيات ساراييفو. وكان يهوى الشعر وتأثر كثيرا بالكاتب القومي الصربي دوبريتشا كوشيتش الذي شجعه على خوض المعترك السياسي. ساهم كرادجيتش بعد أعوام في تأسيس حزب الخضر في الثمانينيات، كما ساعد في تأسيس الحزب الديمقراطي الصربي عام 1990 الذي جاء كردة فعل على صعود الأحزاب القومية الكرواتية والبوسنية. ولدى الاعتراف بالبوسنة والهرسك كدولة مستقلة بعد انهيار يوغسلافيا، أعلن كرادجيتش جمهورية الصرب البوسنية المستقلة وعاصمتها ساراييفو، وعين نفسه رئيسا لها. وكان كرادجيتش زعيما لصرب البوسنة المتشددين خلال الحرب التي استمرت منذ عام 1992 وحتى 1995 والتي تعد أكثر الحروب دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. بعد عامين فقط من توقيع اتفاق دايتون، اختفى كرادجيتش عن الأنظار عام 1997، وكانت أولى المحاولات العلنية لاعتقاله في عام 2002، وفى مايو 2005 رصد المحققون حالتين ظهر خلالهما كرادجيتش، الأولى مع زوجته ليليانا جنوب شرقي البوسنة، والثانية مع شقيقه لوقا بينما كانت والدتهما تحتضر جراء سرطان أصابها. غير أن المشكلة الرئيسية تمثلت في أن أي تحرك لاعتقال كرادجيتش كان من الممكن أن يثير مواجهات خطيرة مع جيش صرب البوسنة، الذي كان كبيرا آنذاك، بالإضافة إلى قوات الشرطة. أعلنت بلغراد أنها نفذت العديد من الاعتقالات على علاقة بالشريط الذي تم بثه للمرة الأولى خلال محاكمة الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفتش. وكانت القوات التابعة لحلف شمال الأطلسي قد أغارت في أوائل عام 2007 على منازل أبناء كرادجيتش ساسا وسونيا، وعللت ذلك حينها بالاشتباه في أن أولاد المتهم ينتمون إلى الشبكة الأمنية التي تحميه. أمضى زعيم صرب البوسنة السابق سنوات في بناء نظام دعم له وشبكة من الأماكن التي يمكنه الاختباء فيها، إضافة إلى شبكة مالية ضخمة يعتقد أن الروس هم من ساعدوه على بنائها. وكان دائم التحرك والانتقال، وهو ما يعنى أنه حتى في ظل وجود معلومات يمكن الاعتماد عليها عن مكان اختبائه، فإنه في وقت وصول القوات الساعية إلى اعتقاله يكون قد غادر المكان بالفعل. كما كان يعتقد أن كرادجيتش، ولوقت طويل، استمر في عبور الحدود المليئة بالثغرات بين جمهورية صرب البوسنة وجمهورية صربيا والجبل الأسود التي ولد فيها. حاولت قوات حلف الناتو تحقيق نجاح ملحوظ لتدعيم مصداقيتها، فاعتقال كرادجيتش سيحفظ سمعة حلف الناتو أثناء توليه مسؤولية حفظ السلام في البوسنة، إلا أنه أعيد إشراك قوات الناتو في محاولات اعتقال كرادجيتش، والتي نجحت بمساعدة القوات الصربية يوم الجمعة الماضي في اعتقال كرادجيتش قرب بلغراد وهو ينتحل شخصية طبيب ممارس للطب البديل. وكان الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفتش متهما بارتكاب إبادة جماعية، لكنه توفي أثناء احتجازه في سجن تابع للأمم المتحدة في لاهاي قبل اكتمال محاكمته، وتجري حاليا محاكمة سبعة متهمين آخرين بتهمة الضلوع في جرائم تتصل بمذبحة سربرينتشا. اعتقال كرادجيتش فتح الباب أمام المراقبين الذين قالوا إن روسيا خسرت جزءا كبيرا من صراعها في أوروبا، في مقابل الأرباح التي حققتها أمريكا. كما أن هناك الكثير من المراقبين الذين يعتقدون أن اعتقاله ربما يفسح المجال لأمريكا وللغرب للمطالبة باعتقال العديد من زعماء دول العالم المتهمين بارتكاب جرائم إبادة. وأصبح اسم كرادجيتش مرادفا لسياسة التطهير العرقي، حيث كان هو وقائد قواته الجنرال راتوك مالديك أول من أدينوا في القيام بأعمال إبادة جماعية في البوسنة. بعد أكثر من عام من توقيع اتفاق دايتون للسلام في دجنبر 1995 والذي قضى بنشر قوات حفظ سلام تابعة لحلف الناتو في البوسنة والمعروفة الآن باسم «اس - فور». خلال الفترة التي سبقت عام 2002، تعرض الناتو لانتقادات شديدة من قبل وسائل الإعلام الدولية، واتهم باتباع سياسة ناعمة إزاء كرادجيتش من خلال عدم اعتقاله، لكن الناتو كان يقول إن الاعتقال ليس من صلاحياته بل من صلاحيات السلطات المحلية. وصرح ابن شقيق رادفوفان كرادجيتش لصحيفة صربية بأنه كان يتصل بعمه أثناء فراره من هاتف محمول، مؤكدا أنه سيفعل ذلك «مجددا» إن لزم الأمر. وأوضح دراغان كرادجيتش لصحيفة برس: «كنت الوحيد من يتصل برادوفان، وكان الاتصال يتم في الغالب بواسطة هاتف محمول». وأضاف: «بالنسبة إلي، كان عمي وليس هاربا ملاحقا من لاهاي. وإنني سأفعل ذلك مجددا إن لزم الأمر». ودراغان كرادجيتش هو ابن لوقا كرادجيتش أخو رادوفان كرادجيتش. وقد أوضح الأخير لصحيفة برس أن نجله دراغان كان الوحيد من العائلة من يتصل برادوفان كرادجيتش، وقال: «إني فخور بدراغان». وبخصوص ميلا تشيشاك، المرأة السمراء التي ظهرت إلى جانب الزعيم الصربي السابق وهو ينتحل شخصية طبيب يدعى دراغان دابيتش في الصورة التي نشرتها الصحف في كافة أنحاء العالم، أكد دراغان كرادجيتش أنها «لم تكن سوى متدربة لديه». وتساءلت الصحف حول طبيعة العلاقة التي كانت تربطه بتلك السيدة أثناء حياته متخفيا. ونفت ميلا تشيشاك، من جهتها، مرات عدة أن تكون عشيقة الدكتور دابيتش، أي الشخصية التي كان ينتحلها كرادجيتش. من جهة أخرى، أعلنت وزارة الداخلية النمساوية الأحد أنها تجري تحقيقا حول ما إذا كان الرجل الذي استمعت إليه الشرطة بصفته شاهدا في ماي 2007 بفيينا حول قضية قتل كان الزعيم السابق لصرب البوسنة رادوفان كرادجيتش أو شخصا آخر يشبهه. فقد أعلن شخص يمارس الطب البديل من شمال صربيا الأحد في اتصال هاتفي لوكالة تانيوغ للأنباء أنه بيتار غلوماتش الغامض الذي استجوبته شرطة فيينا في الرابع من ماي 2007. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية النمساوية رودولف غوليا لوكالة فرانس برس: «حتى الآن لم نحصل على تأكيد من السلطات الصربية. ومازلنا نحاول التأكد، بالتعاون مع السلطات الكرواتية والصربية، مما إذا كان الرجل الذي استجوب هو بيتار غريماتش أو رادوفان كرادجيتش».