بالإعلان عن تشكيل حكومة التناوب التوافقي يوم 14 مارس 1998، لم يحدث في المغرب تحول على مستوى تكليف حزب سياسي معارض برئاسة الحكومة فقط بل أُعيد خلط الأوراق في ما يتعلق بعلاقة «الأغلبية» ب«المعارضة» كذلك، هذا الخلط الذي عبر عن نفسه بداية من خلال معطيين أساسيين: يرتبط أولهما بمسارعة بعض الأحزاب التي وجدت نفسها في المعارضة، كالاتحاد الدستوري، بالتشديد على أن حكومة اليوسفي أتت لتشرف على تطبيق برامج تلك الأحزاب السياسية، وبالتالي فإنها تجد نفسها محرجة من معارضة برامج هي أصلا برامجها. ويتعلق ثانيهما بإقدام حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية -قبل أن يغير اسمه فيما بعد إلى حزب العدالة والتنمية- على مساندة الأغلبية دون المشاركة في الحكومة مساندة مشروطة سماها: مساندة «نقدية». وحتى عندما قرر حزب العدالة والتنمية سحب دعمه للطبعة الثانية من حكومة اليوسفي، التي تشكلت يوم 6 شتنبر 2000 وانتقل إلى المعارضة، قرر ممارسة معارضة مشروطة سماها: معارضة «ناصحة». إن عدوى ممارسة المساندة «المشروطة»، أو «المعارضة المشروطة»، انتقلت إلى غالبية الأحزاب السياسية لحظة مناقشة البرنامج الحكومي لإدريس جطو غداة تشكيله الحكومة عقب تشريعات 27 شتنبر 2002. فأثناء مناقشة ذلك البرنامج، عبرت أغلب الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة عن مساندتها المشروطة، وكان لافتا موقف فريق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي ربط مساندته للحكومة بمدى التزامها باستكمال الأوراش التي باشرتها حكومة عبد الرحمان اليوسفي. ولم يختلف موقف الأحزاب السياسية التي وجدت نفسها خارج الحكومة، إذ التزمت بممارسة معارضة مشروطة، هناك من سماها بمعارضة «ناصحة» وهناك من سماها بمعارضة «بناءة». طيلة ولاية حكومة إدريس جطو غاب مبدأ التضامن الحكومي وتعاملت الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة مع الأداء الحكومي من منظور «قطاعي»، فكان كل حزب سياسي يدافع عن حصيلة القطاع الوزاري الذي يشرف عليه ولا يتورع عن انتقاد أداء القطاعات الوزارية الأخرى التي لا يشرف عليها. بعد تشكيل حكومة عباس الفاسي عقب تشريعيات 7 شتنبر 2007 وبداية تشكل ملامح ما سمي ب«الوافد الجديد»، سيزداد الأمر استفحالا في علاقة الأغلبية بالمعارضة. وهكذا ومباشرة بعد الإعلان عن تأسيس «حزب الأصالة والمعاصرة» في غشت 2008 والذي قرر مساندة الحكومة التي كان مشاركا فيها، اتخذت غالبية مكونات الأغلبية موقفا معارضا لشريكها، بل بدا الحديث عن إمكانية التأسيس لنوع من التقارب والتعاون بين حزب سياسي في الأغلبية وآخر في المعارضة. وعندما انتقل «حزب الأصالة والمعاصرة» إلى المعارضة قبيل جماعيات 12 يونيو 2009، أصبحت المعارضة منقسمة على نفسها. يجد كثير من المغاربة أنفسهم اليوم مدعوين إلى إعادة التفكير في طبيعة ووظيفة الأغلبية والمعارضة. هناك من يتساءل عن جدوى هذه «الثنائية» عندما يعلن حزب سياسي في الأغلبية أن حليفه الاستراتيجي هو حزب سياسي آخر يوجد في المعارضة، وهناك من يتساءل عن جدوى هذه «الثنائية» عندما يقرر حزبان، أحدهما في المعارضة والآخر في الأغلبية، تشكيل فريق برلماني موحد في الغرفة الأولى وفي الغرفة الثانية... !! عندما تأسس حزب الأصالة والمعاصرة في غشت 2008 وُوجه بموجة عداء من قبل شركائه في الأغلبية، بل كان هذا الحزب، ولو بشكل غير مباشر، وراء احتدام الخلافات داخل التجمع الوطني للأحرار والتي انتهت بإزاحة رئيسه مصطفى المنصوري وتعويضه بصلاح الدين مزوار الذي قاد «الحركة التصحيحية»، والكل يتذكر البيان الذي صدر عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في أكتوبر 2007 والذي أبدى مخاوفه مما يطبخ في الكواليس، حيث نعت «حركة فؤاد عالي الهمة» بالوافد الجديد. قيل الكثير عن حزب الأصالة والمعاصرة إبان تشكله، وتساءل المتسائلون حول الأدوار التي ستوكل إليه للقيام بها، فهناك من أشار إلى المهمة الجديدة لهذا الحزب والمتمثلة أساسا في «إعادة هيكلة المشهد السياسي من فوق»، خاصة بعد الأجواء التي خيمت بتداعياتها على كل من يهمهم الأمر بعد اقتراع 7 شتنبر 2007 واستقراء الدلالات السلبية لنسبة الامتناع المرتفعة التي تجاوزت 63 في الأمانة. وأكيد أن هناك جهات وظفت نسبة الامتناع هذه لتشكك في «أداء» و«فاعلية» الأحزاب السياسية، بل هناك من ذهب أبعد من ذلك للحديث عن «موت» الأحزاب التقليدية، بيمينها ووسطها ويسارها، وضرورة الإسراع لملء الفراغ السياسي، مما اعتبر تمهيدا لإضفاء المشروعية على «الوافد الجديد». إضافة إلى المهمة الآنفة، هناك من اعتبر أن مهمة حزب الأصالة والمعاصرة تتحدد أساسا في مواجهة مشروع إسلاميي حزب العدالة والتنمية ووقف تمدده في المجتمع. وبصرف النظر عن حقيقة ما قيل عن مهام حزب الأصالة والمعاصرة في الظرفية الراهنة، فقد اتضح أن هذا الحزب، وقبل حتى أن يتشكل، قد وفر لحكومة «الأقلية» التي شكلها عباس الفاسي في أكتوبر 2007 غطاء برلمانيا من خلال «فريق الأصالة والمعاصرة». قبيل جماعيات 12 يونيو 2009، قرر حزب الأصالة والمعاصرة الانتقال إلى المعارضة. وخلال تلك الاستحقاقات، تصدر المشهد الحزبي باحتلاله الرتبة الأولى. ورغم أن البعض شرع في الحديث عن إعادة إنتاج للحزب «الأغلبي»، فإن الحزب الجديد تصرف بمنطق سياسي مغاير، حيث لم يحاول إرباك حسابات الأغلبية بل ساعدها على تمرير مشاريع قوانين بلجوئه إلى آلية الامتناع أثناء التصويت. وهنا أخذت تتضح مهمة الحزب الجديد، فهو لا يريد أن يكون حزبا «أغلبيا» منخرطا في استراتيجية سياسية عفا عنها الزمن، بل يريد أن يكون حزبا ناظما للتوازنات parti régulateur، سواء في علاقته بمكونات المعارضة أو في علاقته بمكونات الأغلبية. حاول حزب الأصالة والمعاصرة إحلال التوازن في صف المعارضة، خاصة وأن حزب العدالة والتنمية وجد نفسه قويا في مواجهة شركائه في المعارضة. لقد كشفت انتخابات رئاسة الغرفة الثانية في أكتوبر 2009 قدرة حزب الأصالة والمعاصرة على اللعب على تناقضات الأغلبية، من جهة، وتناقضات المعارضة، من جهة أخرى، وبدا انتخاب الشيخ بيد الله، الأمين العام لهذا الحزب، كرسالة واضحة تفيد بضرورة تكريس نوع من التوازن على مستوى رئاسة الغرفتين: واحدة تقودها المعارضة والأخرى تقودها الأغلبية. وأكيد أنه من المشروع أن نتساءل حول هذه المهمة الجديدة للحزب ونحن نتابع الدور الذي لعبه في إيصال عبد الواحد الراضي إلى رئاسة مجلس النواب مرة أخرى، فرغم كون الراضي هو مرشح الأغلبية فإن العديدين من أعضائها في الغرفة الأولى لم ينضبطوا للتعليمات، مما استوجب إجراء دورة ثانية صحح فيها حزب الأصالة والمعاصرة اختلالات مكونات الأغلبية..!