سابع شتنبر 2007 كان يوم انتخابات جماعية بالمغرب. بالنسبة إلى يوسف (37 سنة) كان يوما قاسيا. يحكي يوسف، الذي لا تتعدى قامته مترا وثلاثين سنتمترا، أنه اتجه عشية ذلك اليوم صوب أحد مكاتب التصويت بمقاطعة سيدي بليوط بالبيضاء حيث يقطن. كان يعتقد أن من حقه أن يدلي بصوته كما الآخرين. لكن بمجرد ما وقف أمام صندوق الاقتراع اكتشف أنه لا يشبه الآخرين. كان الصندوق يعلو قامته مرتين، وكان عليه أن يرمي الورقة الانتخابية بداخله. رغم ذلك حاول، لكن دون جدوى. وحين سأل رئيس مكتب التصويت المساعدة، طلب منه المحاولة مرة أخرى. لم يستطع يوسف أن يكظم غضبه فانفجر في وجه رئيس المكتب وقذف بالورقة وخرج. وكانت تلك آخر مرة تطأ فيها قدماه مكتبا للتصويت. يفسر يوسف ردة فعله الغاضبة تلك قائلا: «كان تايشوف باللي أنا قزمي والصندوق عالي علي وما قادرش نوصل ليه وتايطلب مني نلوح الورقة في الصندوق! آش كان باغيني ندير؟ نطير؟». قبل أن يضيف والانفعال يغزو ملامح وجهه الذي أهمل حلاقته «أنا باغي غير نفهم واش احنا ما عندناش الحق في هاد البلاد؟ فين ما مشيت يحكروك ويشوفو فيك بحال إيلا جاي من شي كوكب آخر. ما عندك الحق في الخدمة.. ما عندك الحق تتعالج فابور.. ما عندك الحق حتى فشي حاجة أخرى. وأي إدارة تدخل ليها تلقى المشاكل». ما حدث ليوسف في ذلك اليوم لم يكن سوى صورة مصغرة عما يتكرر يوميا في حياته وفي حيوات العديدين من أمثاله، ينعتهم الناس عموما ب«الأقزام» أو نعوت أخرى أكثر فظاظة وقسوة (القرد، بتي بّان، نص مترو...). في العديد من الدول الغربية يستعمل مصطلح «شخص قصير القامة»personne de petite taille للإشارة إلى هؤلاء بدل لفظة «القزم»، التي ما تزال متداولة في المغرب، رغم حمولتها السلبية. حواجز على الطريق عادة ما يكون الطول النمطي للمصابين بالقزامة ما بين 81 سنتمترا و142 سنتمرا نتيجة خلل في هرمونات النمو. هذا التشوه في الحجم يموقع هؤلاء الأشخاص في خانة المختلف والشاذ انطلاقا من الأنموذج أو المثال، الذي يرسخه المجتمع ارتكازا على مقاييس جمالية محددة تصنف الجسد إلى «عادي» و«غير عادي» أو «سوي» و«غير سوي». هذا الشذوذ عن مقاييس الجمال يجعل هذه الفئة في نفس درجة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وإن كان هناك اختلاف حول ما إن كانت القزامة مرضا طبيا صرفا أم إعاقة. «شخصيا أعتبر نفسي معاقا، رغم أني لا أبدو كذلك..فأنا ما دمت أعجز عن القيام بأشياء عديدة يقوم بها الآخرون بكل سهولة، فأنا معاق». هكذا يختزل أحمد المشكل. ببنيته الضئيلة المحشورة في كرسي ورجليه القصيرتين، اللتين لا تلامسان الأرض، يبدو أحمد أشبه بطفل كبير يصعب تحديد عمره، رغم أنه يتجاوز الخامسة والثلاثين. نادرا ما يجلس أحمد في المقهى لأن «كل المقاهي ليست بها كراس تلائم قامتي. كما أني أتحرج من الجلوس بها لأني أصبح هدف العيون الفضولية». مشكل الجلوس بالمقهى يبقى في آخر المطاف مجرد مشكل تافه بالنسبة إلى أحمد مقارنة بما يقاسيه يوميا من مشاكل، سواء داخل المنزل أو خارجه، «فأنا مثلا لا أستطيع ركوب الحافلات لعلو درجاتها، وإن اضطررت إلى ذلك علي الاعتماد على يدي كي أتمكن من الصعود، وغالبا ما يتم ذلك بمشقة. كما لا أستطيع استغلال الهواتف العمومية ومخادع الهاتف إلا بصعوبة. هناك أيضا مشكل الولوجيات. إذ أن العديد من المرافق العمومية لا تتوفر على ولوجيات. كما أني حين أكون في الشارع أضطر في العديد من المرات إلى القيام بلفة كبيرة كي أتحاشى رصيفا عاليا أو بركة ماء، خصوصا في فصل الشتاء. ماذا أيضا؟ (يحاول أن يتذكر).. أتحاشى المصاعد كذلك لأن العديد منها تكون لائحة أزرارها أعلى من قامتي.أضف كذلك مشكل الملابس لأننا نضطر باستمرار إلى قص أكمام القمصان وكذا السراويل والبحث عن مقاسات الأحذية الصغيرة الخاصة بالأطفال...». قائمة طويلة من المشاكل اليومية يستعرضها أحمد، ربما تبدو لأي شخص عادي تافهة أو مثيرة للدهشة، لكنها بالنسبة إلى شخص في قامة أحمد تكون أشبه بحواجز عالية تكلفه عنتا كبيرا لتجاوزها أو على الأقل التأقلم معها. انقطع أحمد عن الدراسة حين كان عمره ستة عشر عاما لأنه كان يجد صعوبة في الجلوس على المقاعد. كما أن الكتابة على السبورة كانت كابوسا مرعبا يلاحقه باستمرار، إضافة إلى تعرضه يوميا للسخرية من قبل زملائه في الدراسة. لكن ما أثر بعمق في نفسيته هو رفض إحدى الأستاذات تدريسه حين كان بالثالثة إعدادي لأنها كانت حاملا، وكانت تخشى أن تنجب ابنا يشبهه. كانت صفعة قوية لم يستطع نسيانها حتى اليوم، وكانت النتيجة أن غادر الدراسة وصار بدون شهادة أو عمل. «منذ زهاء عشرين سنة وأنا عاطل عن العمل. والدي فقط من ينفق علي. أنفق علي في صغري والآن ينفق علي في الكبر. بعد وفاته ماذا سأفعل؟ هذا السؤال صار يرعبني كثيرا. لكن ماذا أفعل؟ أنا الآن على مشارف الأربعين. أصدقائي كلهم تزوجوا وصار لديهم أبناء، إلا أنا... لا عمل.. لا زوجة.. ولا مستقبل..». حاول أحمد أن يجد حلا لمشكلته فانخرط في ودادية الأشخاص المعاقين في غياب جمعية خاصة بقصار القامة. كما قدم ملفا للحصول على بطاقة المعاق منذ أكثر من عشر سنوات، «لكن لحد الآن لم أسمع أي شيء عن هذه البطاقة، رغم حاجتي الماسة إليها، فأنا أجد صعوبة في النقل.. وفي التطبيب.. وفي.. وفي...غير خليها على الله وصافي». يوسف هو الآخر يبدو متذمرا من وضعه البئيس، والبحث عن عمل أصبح بالنسبة إليه فعلا عبثيا وغبيا «كول لي أش ممكن يدير واحد بحالي؟ وحتى لو قلبت على الخدمة شكون اللي غادي يقبل يخدم واحد قزمي وما عندو لا شهادة لا دبلوم. وحتى لو افترضنا باللي خدمت آش غادي نخدم؟ نْسِيري الصْبابْط ولا نخدم كارديان ولا نهز البالة والفاس؟ واش في نظرك واحد بحالي يقدر يهز البالة». تشاؤمية يوسف ترفضها سناء، التي تحاول أن تواجه تحديات قزامتها بشيء من التفاؤل. قاومت حتى استطاعت أن تحصل على دبلوم مهني، لكن بمجرد ما وطئت قدماها سوق الشغل حتى واجهتها مواقف عنصرية. تقول سناء: «كنت باستمرار أراسل الشركات وأبعث بنهج سيرتي وبطلبات التشغيل. بعض الشركات كانت ترد علي بالإيجاب. لكن بمجرد ما أمثل أمام مسؤوليها ويلاحظون قزامتي حتى يعتذروا إلي»، رغم أن مدونة الشغل تمنع التمييز في الشغل وتعاقب المشغل في حال قيامه بذلك بغرامات مالية (المادة 9 والمادة 10 من القانون رقم 65/99 المتعلق بقانون الشغل). حكرة قزامة سناء لم تحرمها من العمل فقط، بل من الزواج أيضا، بعد فشلها في الارتباط بشخص كانت تحبه. رغم هذه الانكسارات تحاول سناء أن تعيش كما الآخرين. لكن أكثر ما يجرحها هو نظرات الآخرين المحملة دوما بالفضول. نفس الإحساس بالضيق يعتري يوسف، الذي لا يخفي تذمره من تلك النظرات، ويعترف بأنه يرد عليها بطريقته الخاصة، «من حقي حتى أنا نرد عليهم ما دامو ما حترمونيش. أنا ماشي مونيكة ولا كْلون ولا شي عجب جاي من شي كوكب آخر. حتى أنا راني بنادم بحالي بحالهم». قبل أن يضيف «تصور حتى اصحابي قليل فيهم اللي تايتكلم معاي معقول والباقي كلهم تايبغيو يدوّزو بي الوقت بحال إيلا أنا ما عندي آراء وأفكار ومشاعر. وحتى البراهش في الزنقة ما يحترموكش ويتفلاو عليك مع أني قادر نولد قدهم لو كنت تزوجت»، رغم أن فكرة الزواج لا تراوده حاليا لأنه لا يستطيع أن يتزوج بامرأة في مثل قامته مخافة أن يلد أبناء قصيري القامة مثله ويجني عليهم. كما يخشى أن يصير هذا الارتباط مادة تندرية ومثار فضول الجيران والجميع، وربما تتحول حياتهما بسبب ذلك إلى جحيم مضاعف. على النقيض من ذلك يكشف أحمد عن رغبة قوية في أن يلتقي بامرأة تتفهم وضعه وتقبل به زوجا. «أود فعلا أن أجد امرأة تقبل الزواج بي. لا يهمني أن تكون قصيرة القامة مثلي أو معاقة أو سوية. المهم أن تقبل بي زوجا». لكن هذه الرغبة سرعان ما تتلاشى بمجرد ما يتذكر بأنه ما يزال تحت رعاية أبيه وأنه هو من يعيله لحد الآن. نفق مظلم ما يعانيه يوسف أو أحمد أو سناء وغيرهم يجعلهم باستمرار يشعرون ب«الحكرة» وأنهم محاصرون بواقع يضج بالحرمان والاستبعاد الاجتماعي، فهم غالبا ما يواجهون بالتهميش وعدم فهم احتياجاتهم الخاصة مادام العديدون لا يأبهون بوجودهم أو يعتبرونهم مجرد مرضى، وأن مشكلتهم طبية صرفة وليست لها أبعاد اجتماعية أو مادية أو معمارية. «أنا ما بقاش عندي أمل في هاد البلاد» يقول يوسف. الأمل الوحيد الذي صار متشبثا به مثل غريق يواجه الموت هو الهجرة إلى الضفة الأخرى من المتوسط، رغم أنه يعلم أن ذلك صعب، وأن الظروف بأوربا تغيرت، لكنه على الأقل سيجد هناك، كما يقول، جمعيات تهتم بمن هم في مثل حالته، «واحد صاحبي كان جا من برّا كال لي: بحالك انت في أوربا عايش بيخير، والظروف كلها موفرينها ليهم، سواء في الخدمة ولا الترانسبور ولا السكن». يضحك بتهكم ثم يضيف «شوف الناس فين وصلو واحنا ما زال باقين مضاربين مع سراولنا وصبابطنا».