ويكيليكس : ما يحتويه موقع «ويكليكس» ليس خبرا أو قصاصة يمكن إدراجها إعلاميا تحت مسمى السبق الصحافي للموقع، وإنما هو «بحر» من الوثائق الأصلية المنقولة عن مصادرها، وعندما نقول الوثائق، فإنها تحوز درجة كبيرة من المصداقية، بدليل أن همَّ أمريكا اليوم، أو لنقل الإدارة الأمريكية تحديدا، هو وقف النشر أو منع دخول الموقع بالنسبة إلى القارئ العادي، إذ ليس لها أي حظ في تكذيب ما ورد في الموقع. ما يحتويه «ويكليكس»، أيضا، لا يخص دولة أو شخصا أو هيئة، بل إن العالم كله يتملى في صورته كما يراها ويفهمها ويؤولها الدبلوماسي والاستخباراتي الأمريكي، فوراء مجاملات رسائل التهنئة والصداقة التي يتم تبادلها رسميا، هناك صورة أخرى، عمادها الحذر وتصيُّد الأخطاء وغير الأخطاء، من الأقوال وغير الأقوال، الشاردات والواردات، العلني، المنشور في الصحف المحلية، والسري، المصرح به في الدعوات الاحتفالية... هذا هو «ويكليكس»، إنه العالم الحقيقي في طبيعته الأولى، أو لنقل إنه الطبيعة البشرية في ذئبيتها.. لكنْ، كيف ينبغي قراءة التسريبات؟ هل هي نكسة للأجهزة الاستخباراتية الأمريكية أم هي من جنس أفعالها؟ لماذا علينا التريث كثيرا قبل تصديق الرواية الأمريكية، التي تتحدث عن جريمة؟ ما هي مختلف الفرضيات التي ينبغي فحصها، بروية، لاستخلاص نتائج موضوعية بصدد خلفيات هذا الموقع؟ هل يتعلق الأمر بترسيخ لثقافة حقوق الإنسان، كما يعلن أصحاب الموقع، أم إن الموقع هو نسخة جديدة من نظرية الفوضى الخلاقة؟ هل ينبغي النظر إلى «ويكليكس» على أنه نسخة من مسلسل التسريبات الفضائحية التي عرفها التاريخ الأمريكي أم إنه شيء آخر مختلف؟... إذا كان العالم، اليوم، مصدوما من حساسية وكم الوثائق المسربة في موقع «ويكيلكس»، ويتساءل من ومتى وكيف وأين تم تسريب هذه الوثائق، فإن المجتمع الأمريكي «يتسلى» بالمعلومات ذاتها، دون أن يطرح هذه الأسئلة، تماما كما لم يطرح الأسئلة ذاتها في حالات سابقة، ك«ووتر غيت» و«إيران غيت» وكذا التسريبات الخطيرة التي وقعت بعد حرب فيتنام، فلا يهم المجتمعَ الأمريكي معرفةُ من سرّب علاقة جون كنيدي بمارلين مونرو أو من سرب قضية ثوار كونترا، بل يهمه أن بعض أعضاء إدارة ريغان هم وسطاء لبيع السلاح في السوق السوداء، إلى غير ذلك من الأمثلة، فالمناخ الثقافي والنفسي والسياسي الأمريكي مهيأ عبر التاريخ، ليس لتقبل الأسرار فقط بل والجري وراءها، بكل الوسائل، والانفعال بها، بكل الأشكال.. لذلك، يمكن الحديث عن وجود «بورصة» للمعلومات توظف في كل أنواع الحروب بين اللوبيات الاقتصادية والحزبية والدبلوماسية والاستخباراتية الداخلية، فبالأحرى الخارجية، وبالتالي يتوجب النظر إلى هذه التسريبات على أنها نسخة جديدة من هذا الهوس التاريخي للمجتمع الأمريكي بتجارة الفضائح والأسرار، مع إضافة نوعية يمثلها ما بات يسمى «ظاهرة ويكليكس»، وهي أن الثورة المعلوماتية المعاصرة ألقت الضوء على أحد أكبر عيوب هذا المجتمع، ثم رسخت بالفعل القيمة التشاركية والتبادلية للمعلومات، بشكل يصح معه الحديث اليوم عن سلطة المعلومة، كبديل حقيقي لباقي السلط التقليدية، وهذا هو الإطار الذي سيحدد مجال هذا القول... المجتمع الأمريكي.. المستهلك الأول للأسرار إن الذين يستغربون الطريقة التي حصل بها موقع «ويكليكس» على وثائق خطيرة، كالتي يطلع عليها العالم منذ شهر، لا يعرفون طبيعة المجتمع الأمريكي، ومنها طبيعة اللعبة السياسية الأمريكية، والتي تشبه إلى حد كبير جولة طويلة في لعبة شطرنج واحدة، حيث يتجدد اللاعبون وإستراتيجيات اللعب، لكن تبقى اللعبة نفسُها واحدةً وأبدية، والأهم هو أنها مفتوحة على كل النهايات، والمجتمع الأمريكي مهيأ من الناحية الثقافية والنفسية لتقبل كل الأسرار، حتى أشدِّها غرابة واستحالة بالنسبة إلينا، بل إن هذا المجتمع يبذل كل ما في وسعه ليطلع على هذه الأسرار، فلا يهم ما يقوله الرئيس أو هذا الحاكم أو ذاك السيناتور، بل الذي يهم هو ما لا يقولونه ويفعلونه خلف الأبواب، أو العكس. فالمجتمع الأمريكي ألِف كلماتِ الأسف ودموعَ الندم، التي تصدر عن الشخصيات المشهورة، عندما تخرج أسرارهم إلى العلن، من رجال دين وفن وساسة وإداريين وصحافيين، لذلك فهو المجتمع الأول الذي يستهلك بالقراءة والفضول كتب السير الذاتية والمذكرات الشخصية، وأشهرها تلك التي يعترف فيها أصحابها بأسرارهم، وكان آخرها مذكرات المرشحة الجمهورية سارة بايلن والرئيس السابق جورج بوش -الابن.. في هذا المناخ، فأشهر البرامج الحوارية -أوبرا وينفري ودافييد ليترمان مثلا- والوثائقية -«06 دقيقة» كنموذج- هي برامج اكتسبت نجاحها الجماهيري من خلال كشف الأسرار.. أما المنابر الإعلامية الكبرى، سواء كانت مكتوبة أو مرئية، فتتعامل مع آلاف الأشخاص الذين يشتغلون ك«مرتزقة للمعلومات»، والذين يبيعون معلوماتهم حسب أهمية الشخصية، وطبعا، فالأهمية هنا تحظى بها الشخصيات الأمريكية، المنتمية إلى مختلف المجالات، وهؤلاء على قدر كبير من التطور، حيث يستعملون أرقى تقنيات التجسس، للحصول على «المعلومة الغالية»... بل إن هذه المنابر تستعين، أيضا، بخبراء جدد لا نجد لهم نظيرا إلا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، لتحليل سلوك هذه الشخصيات والنفاذ إلى أسرارها، فمثلا، سمع أغلب الأمريكيين بيل كلينتون ينفي، جازما، تورطه في الفضيحة الأخلاقية مع مونيكا لوينسكي، لكنهم لم يصدقوه وصدقوا «محلِّلة» لشخصيته حاولت أن تبرهن على كذبه عندما كان يتكلم، وهو يحك أنفه، لكون ذلك علامة على شعور بالذنب!.. كما سمعوا سارة بايلن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهي تعد الأمريكيين بالمحافظة على نمط الحياة الأمريكي، لكنهم استمتعوا أكثر بأسرارها المتعلقة بابنتها الحامل من صديقها، كما اهتموا بماضيها كمرشحة لمسابقة ملكة الجمال في ولاية ألاسكا.. واهتموا كذلك بعينيها اللتين تسترقان النظر إلى ورقة تستظهر منها خطاباتها.. وقبل سارة بايلن، استمع الأمريكيون إلى جورج بوش عندما ألقى خطاب التنصيب، ولكنهم اهتموا أكثر بخاتمه الذهبي، الذي نُقِشت عليه عبارة لاتينية هي «سأحكمكم إلى الأبد»!... هذا هو المجتمع الأمريكي المهووس بالأسرار، يهتم بنجاحات تايغر وودز ولكنه يهتم أيضا بفضائحه الجنسية، واهتم أكثر بموقف زوجته السويدية من خيانته لها، فتناقلوا صورها وهي لا تضع خاتم الزواج.. يتذكر الأمريكيون، أيضا، جون كينيدي، في موقفه الحازم إبان أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، ولكنهم يتذكرون، أيضا، علاقته السرية بالفاتنة مارلين مونرو.. وما يزالون ينتظرون الإفصاح عن قاتله السري، لأنهم يعرفون أن الأسرار هي الحقائق. واشنطن.. العاصمة التي لا تحتفظ بأسرارها يعرف كل الأمريكيين أن عاصمتهم واشنطن، هي المدينة التي لا تحتفظ بأسرارها طويلا، فكل المقيمين فيها راحلون، منهم من يرحل معزَّزا، وكثير منهم يرغمون على ذلك، لا مكان للنوايا الحسنة، يقفون للرئيس أوباما عندما يدخل عليهم، لكنهم متشوقون لمعرفة ما إذا كان مسلما أو ما يزال يدخن.. أو من أين تشتري السيدة الأولى فساتينها الأنيقة، فكل معلومة في العاصمة قابلة للبيع لمن يدفع أكثر، وكل معلومة يمكن أن تتحول في لحظة من اللحظات إلى رصاصة ضد الخصوم أو ضد «الأصدقاء»، إن لزم الأمر، وهذه كانت تيمة رئيسية في قضايا كثيرة وموضوع أفلام ضخمة، عن عمليات تجسس قام بها أشخاص ينتمون إلى البيت الأبيض لصالح دول «صديقة»، كإسرائيل وإنجلترا أو عمليات تسريب معلوماتي قام بها أشخاص ينتمون إلى الكونغرس لصالح هذا اللوبي أو ذاك، فقد ساهمت عوامل كثيرة في ترسيخ هذه الخاصية للعاصمة، منها حرية الإعلام والتعبير، والتي ينص عليها الدستور الأمريكي صراحة، وتتكفل المحكمة العليا بالدفاع عن هذا الحق، ثم عامل الفصل الفعلي بين السلط، حيث يتعذر على السياسيين، مهما كانت سلطتهم، التدخل لنشر أي معلومة. إذا كان التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري يبدو لنا -نحن- مثاليا، فإن حقيقة هذا «التنافس» ليست بهذه الصورة المثالية.. وينطبق نفس الأمر على الإدارة الواحدة، فالضربات الممنوعة، والتي تعد خارج قواعد اللعب، هي أمر معتاد عبر تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية.. لذلك، فأن يكون هناك شخص واحد يقف وراء التسريبات فهذا غير ممكن، نظرا إلى كون طبيعة المعلومات المسربة لا تعني إدارة واحدة بعينها، بل منها ما هو دبلوماسي متعلق بوزارة الخارجية، ومنها ما هو متعلق بالاستخبارات، وحتى الاستخبارات هناك 16 جهازا استخباراتيا أمريكيا، ومنها ما هو عسكري متعلق ب«البنتاغون»، وبالتالي ففرضية شخص واحد غير ممكنة، فهذا التنوع في المجالات، التي تتطرق لها الوثائق، تشير آليا إلى تورط جهة نافذة لها القدرة على الوصول إلى هذه الوثائق، وهي التي تقف وراء تسريب هذه الوثائق لموقع «ويكليكس»، وبالتالي فأن تكون هذه الجهة قد تعمدت الإساءة إلى جهة أخرى نافذة في المجتمع الأمريكي، فهذا أيضا من بديهيات مجتمع سياسي يتعمد «كل الوسائل لتحقيق كل الغايات»!... فرضيات المستفيد الأكبر إن كل الأفعال مجهولة المصدر غالبا ما يبدأ التحقيق فيها من سؤال: «من سيستفيد من هذا الفعل؟» فإن قائمة المستفيدين تضم عناصر كثيرة تستفيد، حتى الآن، من مضامين الوثائق، هناك أولا إسرائيل، فردود الأفعال الصادرة عن الكيان الإسرائيلي تراوحت بين الشماتة والتشفي ببعض «الأنظمة المعادية»، التي فضحها الموقع من جهة، والارتياح لكون الموقع لا يورد أي وثيقة تتناول إسرائيل من جهة ثانية، بل حتى إبان حرب لبنان 6002. جاءت في الموقع وثائق تتضمن مواقف وتصريحات لجيران إسرائيل عبروا عنها صراحة للدبلوماسيين الأمريكيين، وهؤلاء نقلوها حرفيا إلى إداراتهم، كتصريحات حسني مبارك عن ضرورة القضاء على «حزب الله»، وتصريحات ملك الأردن بضرورة «قطع رأس الأفعى لا ذيله» ويقصد إيران، إلى غير ذلك، إذن، هل أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي في إسرائيل لا يشتغلون ولا يكتبون ولا يتجسسون على مضيفتهم؟ هذا غير ممكن، وبالتالي، فالجهة التي سربت الوثائق اطلعت عليها وصنفتها بطريقة لا تتضرر منها إسرائيل، فهل يمكن أن يكون الأمر صفقة تمت بين المسربين وإسرائيل؟ هذا ممكن، بل وغير جديد، حتى إن هناك احتمالات تسندها مجموعة من المعطيات تؤكد علم إسرائيل بأحداث 11 شتنبر قبل وقوعها.. أما لماذا لم تخبر الأمريكيين على فرض أنهم يجهلون الأمر، فهذا ما يسميه المحافظون الجدد «الفوضى الخلاقة»، والتي هي نسخة عن نظرية الأرقام الكبيرة في رياضيات الاحتمالات، فمن خلف الجزئي، ينبغي استخلاص الكلي، وخلف العشوائي، هناك النسقي، وخلف الاعتباطي، هناك القصدي، وخلف الممكن، هناك الضروري.. باختصار، ما يجري على ضوء هذه الفرضية ريب خطير جدا، فهو من الشساعة حيث لا يمكننا إدراك مقاصده في جزئياته: جهة تسرب الوثائق لموقع «ويكيلكس»، وهذا الأخير يقوم بنشرها.. الأمريكيون يهددون.. باقي العالم، منهم من يستمتع ومنهم من يحتج.. صاحب الموقع يُتَّهم بالاغتصاب في السويد، ويُعتقَل في إنجلترا، أمريكا تطالب به، لاتهامه بالتجسس.. مواقع إلكترونية أخرى تدخل على الخط وتقرصن الموقع... إلى غير ذلك من التفاصيل المتلاحقة، فهل هي عشوائية فعلا، أم إن خلف هذه التفاصيل هناك قصد واحد؟!... أما عن فرضية أن تكون إسرائيل مستفيدة، فهذا يسنده كون العلاقات الأمريكية -الإسرائيلية قد بلغت في عهد إدارة أوباما أسوأ المستويات، فلا تخلو جريدة إسرائيلية من نقد لاذع لأوباما، بل إن منها من لا تخفي الحديث عن عربية أوباما وإسلامه. وقد تزايدت حدة الخلافات بين الطرفين مع تزايد ضغط الإدارة الأمريكية على إسرائيل للقبول بوقف الاستيطان، فهل تلجأ إسرائيل إلى استعراض قوتها ونفوذ اللوبيات المساندة لها أمام الإدارة الأمريكية فهذا ممكن جدا، في أفق ضرب مصداقية الإدارة الأمريكية في العالم. الاحتمال الآخر هو أن تكون الجهة التي قامت بالتسريبات هي الإدارة الديمقراطية، في أفق الانتقام من الإدارة الجمهورية السابقة، خاصة أن الوثائق المسربة لا تغطي فترة إدارة أوباما، بل تقف عند حد 8002، أما لماذا الحاجة إلى هذه التسريبات؟ فلأن الحزب الجمهوري إبان انتخابات اتجديد نصف مجلس الشيوخ، لجأ، هو أيضا، إلى توجيه ضربات غير مشروعة، منها الأحاديث التي راجت حول ما بات يسمى «حزب الشاي»، عن كون أوباما اشتراكيا يقوض نمط الحياة الأمريكية، وهذا النوع من «الضرب تحت الحزام» هو جزء من «تاريخ» الإدارة الأمريكية... هم إدارة واحدة ولكن قلوبهم شتى.. لقد كان منطق التسريبات عاملا مكونا للإدارة الأمريكية عبر التاريخ، والعامل المهم هو أن عناصر الإدارة غالبا ما تكون لهم ولاءات لا يفصحون عنها إلا عبر تسريب بعض الوثائق والمعلومات لصالح جهات، أهمها الاتحاد السوفياتي سابقا، أو إسرائيل الآن، فذكر مكتب التحقيقات الفيدرالي أن العميل لاري فرانكلين، الذي كان يعمل محللا للمعلومات الاستخباراتية والمتمتع بحظوة لدى رؤسائه، تمكن من اختراق البيت الأبيض وقام بتسريب معلومات سرية إلى الحكومة الإسرائيلية، عن طريق اثنين من منظمة «إيباك» الصهيونية حول مداولات داخلية جرت في البيت الأبيض· وفي هذا السياق، فإن فرانكلين متهم بأنه نقل إلى إسرائيل، عدة مرات، معلومات سرية تتعلق بإيران وكذلك معلومات حول القوات الأمريكية في العراق، إلى مسؤولين اثنين في لجنة العلاقات العامة الأمريكية/الإسرائيلية «إيباك» وإلى المستشار السياسي في السفارة الإسرائيلية في واشنطن. كما اتُّهم ذلك العميل بحيازة وثائق سرية بشكل غير شرعي في منزله. لكل ذلك، فتاريخ إسرائيل مع هذا الضرب غير المشروع تاريخ قديم، إذ هناك تقارير تشير إلى كون إسرائيل هي التي أقنعت الرئيس ريغان بدعم إيران في حربها مع العراق، نظرا إلى كون انتصار هذا الأخير سيستفيد منه الاتحاد السوفياتي، وبالتالي يمكن دعم إيران بالسلاح عبر وسيط وتوظيف أموال هذه الصفقات في تمويل ما كان يعرف في ثمانينيات القرن الماضي ب«ثوار كونترا» في نكارغوا، وهذه القضية هي التي ستصبح في ما بعد موضوع فضيحة أخرى تعرف ب«إيران غيت». فضيحة «ووتر غيت».. مصدر التسريبات كان استخباراتيا اندلعت فضيحة «ووتر غيت»، هي أيضا، بسبب تسريبات جاءت من قلب الإدارة الأمريكية، فقد وقعت هذه «الفضيحة» في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، وتحديدا في ال71 من شهر يونيو عام 2791، ونيكسون هو الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدةالأمريكية. وأشاعت القضية صحيفة «واشنطن بوست» (صحيفة أمريكية تصدر من واشنطون العاصمة)، بواسطة الصحافيين كارل برنستن وبوب وود ورد، ففي لتاريخ المذكور أعلاه، لاحظ أحد حراس مبنى «ووتر غيت» وجود شريط لاصق يغطي أقفال عدة أبواب في المبني ليقوم بإزالته، لتتم إعادة وضعه على الأقفال من جديد... قام الحارس باستدعاء الشرطة، بعد أن ساوره الشك حول الشريط اللاصق... اقتحمت الشرطة المكان، لتلقي القبض على خمسة أشخاص كانوا يقومون بزرع أجهزة تنصت على المكالمات الهاتفية للجنة القومية للحزب الديمقراطي... وجَّهت هيئة المحلفين تُهَم التجسس والشروع في السرقة والاقتحام للأشخاص الخمسة، بالإضافة إلى رجلين آخرين على علاقة لهما بالقضية. يتلقى الصحافيان كارل برنستين وبوب وود ورد من «واشنطن بوست» معلومات من شخص مجهول، اصطلح على تسميته في تلك الفترة «ديب ثروث»، تشير إلى أن هناك علاقة بين عملية السطو والتجسس ومحاولة التغطية عليها وبين جهات رسمية رفيعة، مثل وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات الأمريكية، وصولا إلى البيت الأبيض... يقوم الصحافيان بنشر «المعلومات»، لتتطور القضية حتى عشية الثامن من غشت 4791، حيث سيعلن الرئيس الأمريكي في خطاب تلفزيوني مباشر استقالته رسميا، ناهيك عن محاكمته أمام المحكمة العليا، بتهمة الكذب على «إف بي أي». وفي الثامن من شتنبر 4791، يتولى جيرالد فورد الرئاسة ويصدر عفوا رئاسيا عن الرئيس الأسبق نيكسون.. ولم تظهر حقيقة هذه التسريبات إلا في عام 5002، ليتم الكشف عمن كان يعرف ب»ديب ثروث»، وهو نائب مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، «مارك وليام فلت»... جعل كل هذا «التاريخ» جميع الإدارات الحكومية والأبناك والبورصات ومراكز البحث وكبريات الشركات تولي أولوية لجانب الأمن المعلوماتي، وهي في حرب مستعرة وبدون توقف مع الفضوليين ومرتزقة المعلومات وأيضا مع التنظيمات الإرهابية، فإدارات مثل البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون ووزارة الخارجية والمحكمة العليا ووزارة العدل هي «حصون رومانية» من جهة أمنها المعلوماتي، فهي إدارات تخوض حروبا يومية لحماية أسرارها وتدبير معلوماتها، لذلك مخطئ جدا من يعتقد أن أصحاب موقع «ويكليكس» هم من استطاعوا تجاوز الجدارات الأمنية المعقدة المحيطة بالوثائق المنشورة، لذلك نخلص إلى ما يلي: من جهة، فالمجتمع الأمريكي، بطبيعته، لديه استعداد ثقافي ونفسي للبحث عن الأسرار وتسريبها وترويجها، ومن جهة أخرى، كانت الإدارات المتعاقبة تلجأ، دائما، إلى تصفية الحسابات السياسية بين مكوناتها أو بينها وبين باقي الإدارات، بالإقدام على تسريب وثائق ومعلومات تؤدي إلى إلحاق الأذى بالأطراف الأخرى.. ثم إن العلاقات الملتبسة لأمريكا مع إسرائيل تسمح لهذه الأخيرة، عبر أذرعها القوية، على توظيف عنصر التسريب، للضغط أو للتجسس، وبالتالي، فليس مستبعَدا أن يكون «ويكليكس» كل هذا.