في معرض حديثنا عن الولاياتالمتحدةالأمريكية في علاقتها بالمحكمة الجنائية الدولية تجدر الإشارة إلى أن هذه الدولة هي من أشد معارضي إحداث مثل هذه المحكمة. فقد سلكت كل السبل المتاحة أمامها لفرض وجهة نظرها على أعضاء لجان تحضير مشروع المحكمة في كل المراحل، ويمكن أن نسوغ مثالا على هذه الممارسات، والمتمثل في ذلك التهديد الذي أطلقه عضو الكونغرس الأمريكي والسيناتور «جيسي هيلمز»، والذي يتحدث من خلاله عن وقف تحويل المساعدات العسكرية الأمريكية إلى أي دولة تصادق على نظام روما الأساسي، إلا أنه رغم ذلك لم يقف إلى جانب الولاياتالمتحدة في التصويت بالرفض إلا حليفتها إسرائيل والهند والصين وثلاث دول أخرى. وأمام الفشل الأمريكي في إجهاض مشروع المحكمة في البداية، عملت الإدارة الأمريكية على التحرك على جميع المستويات حتى لا تقوم المحكمة بإجراءات المتابعة التي ينص عليها القانون الأساسي. أ- موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية من المحكمة الجنائية الدولية: رغم أن الولاياتالمتحدة وقعت نظام روما الأساسي في 31 دجنبر 2001، إلا أن الرئيس الأمريكي السابق «بيل كلينتون»- الذي وقع هذا النظام – صرح بعد ذلك بأنه لا ينوي تقديم المشروع إلى المصادقة، وخاصة على الصيغة التي هو عليها. وتجدر الإشارة إلى أن التوقيع الأمريكي – ومعه الإسرائيلي- لم يتم على نظام روما الأساسي إلا ساعات قليلة من انتهاء موعد إغلاق باب التوقيعات، لكن ما لبثت الإدارة الأمريكية أن تنصلت من توقيعها على قانون روما الأساسي وذلك بسحبه في 6 ماي 2002. وبالرجوع إلى العراقيل التي وضعتها الولاياتالمتحدةالأمريكية حتى لا تخرج المحكمة إلى النور نجد أن ديباجة المعاهدة استثنت العدوان (عدوان الدول على غيرها أو اجتياحها)، لأن أمريكا عارضت بقوة إدخال العدوان في اختصاص المحكمة، ومعها عدد غير قليل من الدول، إلا أن هذه المعارضة لم تنجح إلا في تأجيل البحث في العدوان مؤقتا. وهنا بالفعل نجد بأن واقعة إخراج جرم العدوان من نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية (على غرار اجتياحات إسرائيل المتكررة لأراضي لبنان وفلسطين على سبيل المثال...) تؤدي إلى تقييد يد المحكمة، ولو إلى حين. كما عارضت الولاياتالمتحدة على سبيل المثال ما نص عليه مشروع القرار بصدد فتح المدعي العام تحقيقا تلقائيا في الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، وأكد ديفيد شيفر، المندوب الأمريكي في مؤتمر روما والمسؤول في الخارجية الأمريكية عن جرائم الحرب، على رفض دولته إنشاء نيابة عامة مستقلة باعتبار أن الهدف من إنشاء المحكمة لم يكن البتة استحداث نائب عام جوال للحقوق الإنسانية يتمتع بصلاحية إلقاء التهم الجنائية كيفما شاء. وبالرجوع إلى تصويت إسرائيل ضد المحكمة، نكتشف من غير لبس كل ما يمثله إعلان روما من مدلولات ذات عمق إنساني، فهذه الدولة التي نشأت على الأراضي الفلسطينية، ودبرت أوسع عملية منظمة لاقتلاع شعب كامل من أرضه وتحويله إلى لاجئين، عندما تقف ضد تأسيس محكمة دولية فهذا يعني أنها دولة خارجة عن القانون وتؤمن الإفلات من العقاب لكل منتهكي القانون الدولي الإنساني وعلى رأسهم «أرييل شارون». وقد صرح مندوبها بأن حكومته لا يمكنها اعتبار الاستيطان في المناطق المحتلة من كبريات الجرائم التي تقع في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. ويمكن أن نرجع مبررات هذه الممانعة إلى كون الولاياتالمتحدةالأمريكية تخشى أن تشكل المحكمة خطرا على مصالحها الاستراتيجية الكونية، وبأن تصبح أداة سياسية ضد تصرفات جنودها المنتشرين في كل مكان في العالم، أي أن اعتراضات الإدارة الأمريكية على مشروع المحكمة ومعارضة قرار تشكيلها تنبع من حرصها على ضمان تفردها بالهيمنة العالمية، وعلى الاحتفاظ بموازين القوى داخل هيئة الأممالمتحدة التي تترجم هذا التفرد. ومن المفارقة أن الكونغرس والإدارة الأمريكيين كانا قد دعما تشكيل محكمة دولية لمقاضاة مجرمي يوغسلافيا ورواندا. ب-مبدأ عدم الإفلات من العقاب في ظل استثناءات الرعايا الأمريكيين من العقاب. تعود معارضة الولاياتالمتحدةالأمريكية لإنشاء المحكمة إلى رغبتها في استثناء المواطنين الأمريكيين من الخضوع للولاية القضائية لمحكمة جنائية دولية تنظر في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وغيرها من الجرائم التي أوردها نظام روما، واتفاقيات جنيف وغيرهما، وذلك لضمان الحصانة من العقاب لفائدة مواطنيها العاملين بالخارج من خلال تحفظاتها بخصوص ممارسة المحكمة الدولية اختصاصاتها على المواطنين الأمريكيين. هذا الاعتراض يبين مدى تجاهل الولاياتالمتحدةالأمريكية تماما لمبدأ قانوني معروف بمبدأ الاختصاص الذي يعطي الدولة الحق في ممارسة اختصاصها الجنائي على كل الجرائم الواقعة على إقليمها، فإذا ارتكب المواطن الأمريكي جريمة على إقليم دولة أخرى يكون لهذه الدولة الحق في محاكمته أو تسليمه إلى أي دولة أخرى انعقد لها الاختصاص، كما أن لها الحق أيضا في تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية كامتداد للاختصاص الجنائي الوطني للدول الأعضاء بالمحكمة والذي تنعكس ممارسته في الإجراءات اليومية التي تتخذها الدول في شأن قضايا التسليم. وقد أصدر مجلس الأمن في 12 يوليوز 2002 القرار رقم 1422 الذي يطلب من المحكمة الجنائية الدولية وفقا للمادة 16 من النظام الأساسي وقف إجراءات التحقيق أو المقاضاة في الدعاوى المتعلقة بالموظفين السابقين أو الأشخاص الحاليين المنتمين إلى الدول المشتركة في عمليات الأممالمتحدة لحفظ السلام إذا كانت تلك الدول ليست بأعضاء في نظام روما، وذلك لمدة 12 شهرا تبدأ في 1 يوليوز 2002 إلا إذا قرر المجلس عكس ذلك. وفي هذا الاتجاه انطوى مجلس الأمن على منح حصانة شاملة إلى مواطني الدول غير الأعضاء بالمحكمة المشتركة في عمليات حفظ السلام والتي تقدر بخمس عشرة عملية في أنحاء العالم بغير إيجاد أي فعل يمثل تهديدا للسلام والأمن. وبهذا يكون قرار مجلس الأمن مخالفا للمادة 16 من نظام المحكمة، الذي يعطي للمجلس حق طلب وقف الإجراءات بصورة مؤقتة بالنظر إلى كل قضية على حدة، ويمكن القول بأن موافقة الولاياتالمتحدة على هذا القرار أكبر دليل على اعترافها بالمحكمة الجنائية الدولية. من جهة أخرى، وقع الرئيس جورج بوش في 2 غشت 2002 على القانون الخاص بحماية الأفراد الأمريكيين العاملين بالخدمة العسكرية (ASPA)، والذي يحتوي على فقرات خاصة تحرم على الأجهزة والهيئات الأمريكية التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وأخرى تحد من مشاركة القوات الأمريكية في عمليات الأممالمتحدةالأمريكية المتعلقة بحفظ السلام، بالإضافة إلى فقرة تتعلق بحرمان الدول الأعضاء بالمحكمة من المعونة العسكرية الأمريكية. وإذ يحظر هذا القانون على المحاكم الأمريكية والحكومات المحلية والحكومة الفيدرالية كل تعاون مع المحكمة الجنائية، يشمل كذلك حظر وقف أي شخص موجود على الأراضي الأمريكية سواء كان مواطنا أمريكيا أو من الأجانب المقيمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية، لإحالته إلى المحكمة وحظر تخصيص موارد الحكومة الأمريكية لتمويل العمليات التي تقوم بها المحكمة لاعتقال أو حبس أو تسليم أو ملاحقة أي مواطن أمريكي أو أجنبي مقيم بصفة دائمة في الولاياتالمتحدة، وحظر القيام على الأراضي الأمريكية بتنفيذ أية تدابير للتحري بطلب أولي أو عمليات تحقيق أو مقاضاة أو أي إجراء آخر من إجراءات المحكمة. ولم يتوقف عمل الولاياتالمتحدة عند هذه الإجراءات، بل بدأت تبرم اتفاقيات ثنائية مع أكبر عدد ممكن من الدول لمنع تسليم المواطنين الأمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية وتسليمهم للولايات المتحدة لمحاكمتهم عما قد يقترفوه من جرائم، مما تختص بنظرها المحكمة وذلك استشهادا بالمادة 98 من النظام الأساسي، وحتى تاريخ 16 يناير 2004 قامت 70 دولة بعقد هذا النوع من الاتفاقيات الثنائية مع الولاياتالمتحدة. وفي هذا السياق قام البرلمان الأوروبي في 25 شتنبر 2002 بإصدار القرار رقم 1300 والذي عارض فيه الاتفاقيات الثنائية التي تطالب الولاياتالمتحدة بعقدها مع الدول الأوروبية التي صادقت على اتفاقية روما من حيث مخالفتها للغرض الذي من أجله أنشئت تلك الاتفاقية. ونخلص إلى القول بأن تعدد أشكال التدابير التي تتخذها الحكومة الأمريكية من أجل ضمان إفلات رعاياها، أو أي شخص يعمل لحسابها من العقاب إثر ارتكاب أكثر الجرائم خطورة، ومن بينها الحملة الدبلوماسية الجارية، لا تستهدف فقط التصديق على اتفاقات تسمى «باتفاقات الإفلات من العقاب استنادا إلى المادة 98 من نظام روما الأساسي، بل تواكبها في أغلب الأحيان وعود اقتصادية أو صناعية واسعة النطاق، وفي حالة رفض الدولة المستهدفة التوصل إلى حل وسط، تتحول هذه الوعود إلى تهديدات جدية على الصعيدين العسكري والاقتصادي معا. إلى ذلك، يمكن القول بأن المعنى العميق والتاريخي لقرار إنشاء المحكمة الجنائية الدولية يتمثل في حقيقة أن البشرية شيدت مؤسسة، فكرتها الرئيسية ومصدر شرعيتها العمل من أجل أعضاء الأسرة البشرية جمعاء، حتى يكف العالم عن أن يصبح قرية آمنة للطغاة، وأن تكف السياسة عن أن تكون حقل الجريمة الجماعية، وأن تكف الدبلوماسية عن أن تكون حصنا للمجرمين وموطنهم الآمن وأن تخط البشرية طريقها نحو إرساء مبدأ عدم الإفلات من العقاب.