إن تبني شعار الحرية والنضال من أجل تحقيقه مهمة نبيلة...لكن أية حرية نريد؟ هل حرية الممارسة والمسؤولية؟.. أم حرية الممارسة والفوضى؟.. كذلك الدفاع عن رفع الوصاية عن العقل أمر مشروع،لكن أي عقل هذا الذي سنرفع عنه الوصاية؟.. ثم أي عقل نريد؟.. هذا ما سنحاول إثارته من خلال هذه الإشارات المتواضعة...التي لا نريد من ورائها إلا لفت الانتباه، حتى تأخذ كل هذه المحاور وغيرها حظها من حيث المناقشة والعمق والوضوح... وإن تحديد معنى وقيمة وغاية وجود الإنسان وما سوف يتولد عنه من حقوق وواجبات تتخذ معه الحرية شكلين: _ حرية جوهرية: وضمن هذا الشكل، تتحول الحرية إلى التزامات تربط الممارسة بالوعي، والوعي بالمسؤولية، والمسؤولية بالآخرة... وتمزج الإيمان بالإخلاص، والإخلاص بالتقوى، والتقوى بالعمل... وتلك هي أعلى مراحل الحرية التي يكدح الإنسان إليها، حيث تلتقي الفطرة ببارئها، ويحقق الإنسان توازنه المادي والروحي، فتستقيم علاقاته بعالمه الخارجي عموديا: بين الإنسان وخالقه، وأفقيا بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة، وتتوفر له الظروف الملائمة لإثراء التجربة الإنسانية، ودفع حركة الإبداع لتشييد صرح حضاري: أساسه الإحسان، الذي تتحول معه المراقبة إلى نبع متدفق من أغوار الكينونة البشرية مستمدة جذور شرعيتها من خارج القوانين والأعراف الاجتماعية الضرورية لتوجيه السلوك البشري في مختلف مسالك الحياة... وصدق الرسول الكريم حيث قال في هذا السياق: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». أما قوام هذا الصرح، فهو العدل، في مختلف جوانب الحياة: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة: 8، ومحوره الإنسان: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد...) القصص: 77، وختاما غاية هذا الصرح هو الله: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات: 65. _ حرية شكلية: أما الحرية ضمن هذا الشكل، فإنها تتحول إلى التزامات شكلية تنفصل فيها الممارسة عن الوعي عن المسؤولية، والمسؤولية عن الآخرة. إما انفصالا كليا، أي: نكرانها وبالتالي نفي وجود الله سبحانه وتعالى، أو انفصالا جزئيا تشويهيا، أي لا يستحضر فيه الإنسان البعد الإلهي والغيبي أثناء الممارسة، وتلك هي مصيبة العقلانيين الجدد، حيث يفقد الإنسان توازنه المادي والروحي، سواء بتضخيم بعده المادي، أوبنكران بعده الروحي، محتكما في كل ذلك إلى العقل، هذه الطاقة الجبارة التي أودعها الله الإنسان ليستعين بها للتعرف على نفسه، ويستكشف بها السنن التي تتحكم في الكون ثم يتأمل، فتكتمل بذلك وظيفة العقل، ولا تنحصر في تفجير خيرات الطبيعة، بل تتجاوز كل ذلك لتتدبر نتائج استكشافاتها، عساه بالتعرف على دقة تنظيمها ونسق أداء وظائفها رغم كل تعقيدات تركيبتها، تساعده على الانعتاق من كل الأوهام التي تحول بينه وبين العودة إلى الله، وبذلك فإن طريق الحرية رهين تحرير العقل... لكن ما هي السبل الكفيلة بتحقيق ذلك؟ والحال أن كل الظروف الموضوعية ملائمة لتعقيم وظيفة العقل التأملية، وتنشيط وظيفته الاستكشافية... بعد أن اختزل دور ومعنى وقيمة وغاية وجود الإنسان في السعي لإشباع حاجاته الضرورية المادية من مأكل وملبس ومشرب ومأوى وجنس... وتلك هي أكبر إشكالية وأصعب معضلة تنتظر الإنسان العربي لإنجاز مشروعه الحضاري!!!