بداية نورد جملة بليغة لأب الفلسفة الحديثة ديكارت يقول فيها: «إن استعمال المرء عينيه لهداية خطواته واستمتاعه بجمال اللون والضوء، أفضل بلا شك من أن يسير مغمض العينين مسترشدا بشخص آخر». هذه القيمة العليا للتربية على الاختيار، هي أشمل من أن تكون مجرد اختيار لشعبة ومسلك أو مدرسة ومعهد، لتكون نسقا من العمليات التعليمية التعلمية التي تبدأ بتنمية الوعي الذاتي لدى المتعلم، أي الوعي بوضعه البشري في تعدده وتنوعه، إدراكيا وعقليا وعاطفيا ونفسيا وحتى جسديا، ثم تنمية الشعور بالتقدير الذاتي، باعتبار أن الذوات التي تثق في إمكاناتها، هي ذوات لا تملك طموحا ولن تستطيع تحقيق مشاريعها الذاتية بحرية وبعيدا عن الإكراهات. إدماج التربية على الاختيار داخل منظومة المدرسة العمومية المغربية أصبح اليوم حاجة ملحة بما كان، نظرا إلى تفشي ظاهرة جديدة وهي التدخل التعسفي لبعض أولياء وآباء التلاميذ في اختيارات أبنائهم، وخاصة في الشعب والمسالك العلمية، من منطلق رؤية استثمارية غير سليمة في الأبناء. فكما أن هناك من يستثمر في العقار والدواجن وغيرها من القطاعات، نجد بعض الآباء يستثمرون بالمعنى الاقتصادي المحض للكلمة في أبنائهم، فيدفعونهم تعسفا، وضدا على قدراتهم وإمكاناتهم واستعداداتهم، إلى مسالك لاقتناع هؤلاء الآباء أو الأولياء بكونها الطريق المضمون للمستقبل. وفي المحصلة لا تخلو المسألة من مخاطرة، لأن هناك حالات كثيرة يصادفها المدرسون للشعب العلمية كل سنة، وخاصة أثناء مداولات امتحانات الباكلوريا التي يكون فيها التلميذ حاصلا على معدل «جيد جدا» في الامتحانات الجهوية، وهي مواد أدبية، بينما لم يتجاوز معدل الامتحان الوطني عتبة العشرة من عشرين، وهذا يؤثر على المعدلات العامة للنجاح، والتي لا تتجاوز ميزة «مقبول» إلا في ما ندر، وهي ميزة تعتبر مفترق طرق حقيقيا. بينما تدل مؤشرات الامتحان الجهوي بما لا يدع مجالا للشك على أن هذا التلميذ ذو توجهات أدبية، وكان بإمكانه الحصول على ميزة متفوقة جدا في الامتحان الوطني، الأمر الذي سيتيح له إمكانات أفضل بكثير من التي تتاح له بمعدل ضعيف في الشعب العلمية. لقد كان اهتمام الأنوار الأوربي بموضوع التربية ومن خلالها المدرسة العمومية، نابعا من كون غاية التعليم بالقصد الأول هو إخراج المواطن من حالة القصور التي هو مسؤول عنها وحده، حالة القصور التي تفرضها عليه طبيعته من جهة، ومؤسسات الوصاية في القرون المظلمة من جهة أخرى. والغاية هي تعليم المتعلم وتحصينه بالمعارف والقدرات المناسبة التي تجعله ينتبه إلى أنه في كل مكان هناك دوما من يدعي امتلاكه للحقيقة المطلقة والنهائية، وسيروم ممارسة كل أشكال الحجر عليه، في السياسة كما في الأسرة والمدرسة. يقول كانط في مقالته الشهيرة «ما الأنوار؟»: إن حالة الوصاية ليست آتية من نقص في الإدراك العقلي.. بل من نقص في الإرادة والشجاعة في استعمال العقل دون توجيه من الغير.. فلتكن لك شجاعة الاهتداء بعقلك وحده.. ذلك هو شعار «الأنوار». وهذه هي روح التربية على الاختيار، إنها التربية على التنوير، تعليم التلميذ مزايا الإرادة الحرة والشجاعة، من خلال مساعدته على تخطي الصعوبات الناجمة عن الخروج من حالة الوصاية، لأنه خروج صعب وشاق، وقليلون هم من يهتدون إلى هذا السبيل. إن التربية على الحرية والاختيار اليوم تعطينا الدليل على أن بقاء المتعلم/المواطن في حالة الوصاية لا ينبغي تبريره بأي شكل كان، سواء أكان بطش حاكم أو كاريزما أب أو حتى «رسولية» معلم، فالحرية مطلقة وحدودها الطبيعية تنبع من التزام الفرد لا من خوفه. فأن ننمي قدرات الإبداع والخلق والتكيف السليم مع مستجدات المحيط لدى المتعلم لن يكون هدفا ممكن التحقق وهذا المتعلم عاجز عن الاختيار، غير قادر على تحمل المسؤولية، غير قادر على الدفاع عن اختياراته بكل ما يقتضيه ذلك من ثقة في النفس وقدرة على التواصل. لن يتجاوز المتعلم اليوم عتبة القدرة للمهارة، عتبة العادة للإبداع، عتبة المعرفة الإخبارية للمعرفة الإجرائية إذا لم يكن إيمانه بحريته مطلقا، وإذا لم يؤمن بأن الكمال ليس مستحيلا، بل هو «ممكن طموح» بتعبير الرائع درويش رحمه الله، وأن التبرير وعدم الثقة في النفس والشعور بالذنب وغيرها من العواطف والأحاسيس السلبية هي امتداد لحالة الوصاية والقصور، وأن مواطنته لا تتحقق فقط عندما يصبح تقنيا أو مهندسا أو طبيبا، ما دام المجتمع البشري لا يمكن أن يحيا حياة تستحق أن تحمل صفة البشرية بالتقنوقراط فقط، بل تتحقق مواطنته أيضا عندما يصبح فنانا أو شاعرا أو رياضيا أو سياسيا. ألم يكن درويش وهو الشاعر، وعبد الرحمان منيف، وهو الروائي، وفيروز، وهي المطربة، وعابد الجابري، وهو المفكر، ومنير بشير، وهو الموسيقار، وبليغ حمدي، وهو الملحن، والقرضاوي وهو الفقيه، وعادل إمام وهو الكوميدي، والكروج وهو الرياضي.. ألم يكن كل هؤلاء وغيرهم كثير عباقرة وبالتالي ناجحين أيضا دون أن يكونوا مهندسين بالمعنى التقنوقراطي للكلمة؟...