تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. لدى استقباله للمرة الأولى من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، خاطبه هذا الأخير بما يفيد أنه لا يريد أن يسمع أي أخبار عن تحصنه في مكتبه في الرباط، قال الحسن الثاني موجها كلامه إلى كاتب الدولة الراشدي الغزواني بأنه سيضع طائرة رهن إشارته للتجوال في كل المناطق، من أقرب قرية إلى أقصاها، خصوصا أطراف العالم القروي، من أجل استخلاص تصورات ميدانية حول النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. كانت فكرة التخطيط تغري الحسن الثاني أكثر، بالرغم من أنه كان يعتبر ذلك جزءا من طروحات لا يشاركها نفس التوجه، لكنه اهتم دائما بأن يكون التخطيط بمثابة بوصلة طريق لوضع الأسبقيات وتحديد برامج العمل واستكناه قدرات مختلف القطاعات لضمان ما كان يطمح إليه على صعيد تكريس الأمن الغذائي ومحو الفوارق بين الفئات والجهات وإيجاد موارد بديلة تسعف في دعم اقتصاديات البلاد. كان يعرف أن المعطيات، التي توضع فوق مكتبه، ليست مطابقة للواقع، وأنه كثيرا ما يتم غض الطرف عن الجوانب السلبية فيها، لذلك فقد وجه، من خلال دعوته الوزير الراشدي الغزواني لأن يتنقل في كل ربوع المملكة، رسالة واضحة، بهدف تعرية الواقع. لعله من خلال اختياره لرجل تمرس كثيرا في العمل السياسي والنقابي، بعد تخرجه من مدرسة «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، وإلمامه بكثير من التجارب الدولية، خصوصا لدى إقامته بعض الوقت في الجزائر، وكذلك انكبابه على الدراسة والتحصيل في ميادين علمية تطال التخطيط والاقتصاد والقانون، كان يراهن على الرجل الملائم. لم يكن الحسن الثاني يريد لشخص واحد أن يستأثر بكل النفوذ في وزارة الداخلية، فقد تعمد دائما أن يضع إلى جانب الوزير مساعدين برتب عالية، ليكونوا بمثابة رادع لأي نوع من الهيمنة والاستئثار بالقرار. فقد عرفت الداخلية دائما وجود رؤوس متعددة، خصوصا في مناصب كتاب الدولة أو الكتابة العامة، لولا أن الأمر لم يكن يسير وفق هذا التوجه، فليس يكفي أن يكون هناك أكثر من وزير بدرجات متفاوتة للاطمئنان على أن الأمور تسير على أحسن ما يرام. من أول منصب إلى آخر وزارة شغلها الراشدي الغزواني، كان نموذجا للتقنوقراطي ذي المرجعية السياسية، ومع أنه على امتداد عمله الحكومي لم يحسب على أي تيار أو حزب سياسي، فقد كان أقرب إلى الجمع بين خصائص التقنوقراط والتزامات السياسة، فالحزب الوحيد، الذي ظل وفيا له، يمكن أن نطلق عليه مجازا بأنه «حزب الدولة»، لكن دون أن يعني ذلك أنه لم تكن لديه ميول سياسية تجذبه إلى هذا الفريق أو ذاك. غير أن صهر مولاي علي الصقلي لم يكن من طينة السياسيين الذين يفضلون الانتماء إلى المدن أو القبائل أو الفخذات، فقد كان وفيا لأصوله التي أنجبت الأضداد، الراشدي الغزواني في ضفة، ونوبير الأموي في ضفة أخرى، وبينهما كانت الشاوية تستطيب الأنوار التي كانت تتراءى من بعيد، أي تلك التي كانت تميز مدينة خريبكة قبل الوصول إليها. وسيكون لافتا أن أبناء الأسرة الواحدة سيتوزعون في ولاءاتهم، ففيما كان الراشدي أكثر حماسا لطروحات رسمية، كان آخرون ينتقون الطريق إما في اتجاه الاتحاد الاشتراكي أو التجمع الوطني للأحرار. فثمة ميزة لدى المغاربة، أنهم يلتقون تحت قبة واحدة يحتسون كؤوس الشاي، ثم يفترقون إلى قبائل وأضداد في الخيارات السياسية، دون أن يفسد ذلك المودة الأصلية. ستكون طريق الراشدي الغزواني سالكة منذ تعيينه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي نائب كاتب دولة مكلفا بالإنعاش الوطني، الذي كانت تشرف عليه وزارة الداخلية، فهذا القطاع، الذي ظل موزعا بين إدارات عدة، مثل الصناعة التقليدية والتخطيط، كان ينظر إليه بمثابة وعاء لاستيعاب منافذ الشغل غير الدائم، والحال أن الغزواني سعى إلى تحويله إلى قطاع منتج يتجاوز المفاهيم التقليدية للإنعاش الوطني. صادف مرة أن المستشار أحمد رضا اكديرة حين كان وزيرا للداخلية والفلاحة اهتم بغرس المزيد من الغابات عند خواصر المدن المغربية، وكان يعتمد في ذلك على قطاع الإنعاش الوطني، وفيما حوله الوزير الأسبق في الصناعة التقليدية إلى ما يشبه أعمال الإحسان، التي انصبت على الحرف التقليدية، كان الراشدي الغزواني في طريقه لأن يجعل منه قطاعا أكثر إنتاجية. ومنه انتقل في أبريل 1985، على عهد حكومة الوزير الأول محمد كريم العمراني، ليصبح وزيرا منتدبا مكلفا بالتخطيط، الذي كان يرسو سابقا على الوزير الطيب بن الشيخ ابن مكناس. من المفارقات أن الراشدي الغزواني سيكون في مقدمة المدافعين عن امتدادات تلك الحكومة، التي أسندت رئاستها لاحقا إلى الوزير الأول عز الدين العراقي، فقد اضطر إلى ذلك لأن الحكومة واجهت ملتمسا بسحب الثقة وضعته أحزاب المعارضة في مرحلة دقيقة. فقد كان الراشدي الغزواني من بين وزراء اختيروا للترافع عن حكومة العراقي، إلى جانب إدريس البصري وسعيد أمسكان ومحند العنصر وآخرين. واتسمت المواجهة بين فتح الله ولعلو والراشدي الغزواني بالحدة، لأنها كانت تغرف من عالم الأرقام، ولم يدر في خلد كثيرين، آنذاك، أن ذلك الملتمس سيكون مقدمة الطريق أمام تولي المعارضة مقاليد الحكومة بعد أقل من ثمان سنوات، تغيرت فيها المواقع والوجوه والمرافعات. في صيف 1992، سيعود كريم العمراني إلى الواجهة، وسينتقل الراشدي الغزواني إلى مسؤولية وزارة النقل، بعد أن اختفى التخطيط من هيكلة الحكومة الجديدة، التي شغل فيها الدكتور عبد اللطيف الفيلالي وزارة الخارجية، ومحمد القباج وزارة الأشغال العمومية والتكوين المهني وتكوين الأطر، وظهرت مناصب جديدة من قبيل الوزارة المكلفة بالجالية المغربية في الخارج، التي أسندت إلى رفيق الحداوي، ونائب كاتب الدولة لدى وزير الداخلية المكلف بالمحافظة على البيئة، والتي تولاها شوقي السرغيني، فيما شغل عبد السلام أحيزون وزارة البريد والاتصالات السلكية واللاسلكية. غير أن تعديلا سيتم إدخاله على حكومة العمراني في نونبر 1993، يتزامن مع بدء سلسلة المشاورات التي ستمهد لاحقا لحكومة التناوب لعام 1998، وسيكون من بين وجوهها الجديدة محمد الإدريسي العلمي المشيشي في وزارة العدل، وعمر عزيمان وزيرا منتدبا مكلفا بحقوق الإنسان، ومحمد معتصم وزيرا منتدبا مكلفا بالعلاقة مع البرلمان، إضافة إلى عبد العزيز مزيان بلفقيه وإدريس جطو وسيرج بيرديغو ومحمد الكنيدري وعبد الرحمن الهروشي وآخرين. لكن الغزواني سيغيب عن حكومة عبد اللطيف الفيلالي لعام 1995، بعد أن استقر الرأي على إسناد كثير من حقائبها إلى وزراء حزبيين وتقنوقراط. سيعود الوزير الأسبق في الشغل إلى عالم التدريس الجامعي، وسيختار الانفتاح على جامعات دولية في كندا وغيرها، فقد شرع منذ ذلك الوقت في بلورة معالم توجهات جديدة في حياته المهنية والفكرية، وإن حافظ على الهاجس الذي يتملكه في التخطيط والإذعان إلى استقطاب عالم الأرقام والتوقعات. كانت ثمة فورات معرفية في طريقها لأن تفرض وجودها على المثقفين وأهل القرار السياسي والاقتصادي، وكان الراشدي الغزواني أكثر قابلية للانخراط في هذه المنظومة الجديدة، باحثا وصاحب رؤية، وفي غضون ذلك، لم يغب عنه المزج بين صرامة رجل الاقتصاد والتخطيط وشاعرية الفنان، فقد عمل من أجل استقطاب الكثير من كبار الفنانين العرب والأجانب، وكان بذلك يعود إلى حدسه الفني، الذي لم ينفلت من تحت يديه. غالبية الأحزاب، يمينها ويسارها ووسطها، كانت تعبر في الخفاء عن تمنياتها أن يكون الراشدي الغزواني من بين أعضائها، فقد حدث مرة أن صارح الوزير الأول الأسبق المعطي بوعبيد الملك الراحل الحسن الثاني بتمنياته بهذا الصدد، إلا أن الجواب جاءه قاطعا بأن الغزواني تنتظره مهام أخرى لفائدة خدمة الوطن. لم يتحدث الحسن الثاني عن تلك المهام في حينها، فقد كان بصدد ترتيب علاقات إقليمية ودولية تدفع في اتجاه أن يتولى ذلك المسؤول المغربي مهمة مساعد للأمين العام للأمم المتحدة في الشؤون الإفريقية أو المسائل المرتبطة بالتنمية والتخطيط، لإسماع صوت العالم الثالث. وبالرغم من أن المنافسة كانت على أشدها بين مرشحين لشغل هذا المنصب، من بين دول عربية وإفريقية وأجنبية، فإن حظوظ الراشدي الغزواني كانت أكبر، لولا أن رئيس دولة شقيقة تدخل ليطلب من الملك الحسن الثاني دعم مرشح بلاده. كانت الفترة تحتم قيام وفاق بين البلدين، لذلك فقد فضل الحسن الثاني إرجاء النظر في ترشيح الراشدي الغزواني إلى ذلك المنصب الدولي الرفيع، وكان في نيته أن يعرض اسمه لمنصب آخر، لولا أن الظروف الدولية لم تسعفه من أجل تحقيق ذلك التطلع. وقتذاك طرح على المغرب سؤال جوهري: لماذا لا يبدو أكثر حماسا في ترشيح أبنائه لمثل هذه المناصب في المنظمات الإقليمية والدولية، علما أن حظوظهم لم يكن الشك يرقى إليها. وربما جاز الاعتقاد بوجود تقصير كبير على الصعيد الدبلوماسي. وقد غضب الحسن الثاني، يوما، حين تناهى إلى علمه أن مسؤولين دوليين ينتمون إلى بلد مجاور يسخرون المنظمات الدولية لأهداف تخدم مصالح بلادهم. ميزة الراشدي الغزواني أنه لم يقطع علاقته بعوالم الانفتاح. قد يكون أخطأ الطريق في عدم الانتساب صراحة إلى حزب سياسي، وقد يكون اطمأن إلى أن مساره يشفع له، لكنه ظل على يقين بأنه بإمكان الكفاءات المغربية أن تعوض البلاد بعض ما خسرته على طريق شق مجاهل التنمية التي تجمع بين العلم والتخطيط واستيعاب كل الموارد. هل كان الراشدي الغزواني واحدا من الذين دفعوا ضريبة عملهم إلى جانب الوزير المتنفذ إدريس البصري؟ أم أنه انفلت من زمان آخر؟ وحين جاءت الفرصة كان يصنف كذلك في زمان آخر، مع أنه كان في وسعه أن يجمع بين أزمنة متعددة في الآن ذاته.