المشهد المصري الراهن لا يثير القلق فحسب، وإنما الرعب أيضا، فبعد متابعتنا «عن بعد» للانتخابات البرلمانية الأخيرة وما جرى فيها من أعمال تزوير، لا نتردد للحظة واحدة في التعبير عن مخاوفنا والقول إن مصر تركض نحو سيناريو خطير يذكرنا، بطريقة أو بأخرى، بما حدث في الجزائر عام 1990 عندما تدخلت السلطات وألغت الانتخابات ونتائجها لمنع فوز الإسلاميين وسيطرتهم، بالتالي، على البرلمان. السلطات المصرية لم تلغ نتائج الانتخابات البرلمانية، كما أن الإسلاميين لم يفوزوا فيها، ولكنها فرغت هذه الانتخابات من مضمونها عندما مارست كل أنواع التزوير والبلطجة، وبطريقة تفتقر إلى الحد الأدنى من الذكاء، في احتقار واضح لعقل المواطن المصري. ولهذا، لم يكن مفاجئا أن يقرر أكبر حزبيْ معارضة في مصر، الإخوان المسلمين وحزب الوفد، انسحابهما من انتخابات الإعادة التي من المقرر أن تبدأ يوم الأحد المقبل للتنافس على سبعة وعشرين مقعدا. فعندما يقاطع الإخوان المسلمون، الذين يمثلون اليمين المحافظ، وحزب الوفد، الذي ينطق باسم الوسط الليبرالي، وحزب التجمع، الذي يحافظ على ما تبقى من تراث اليسار، فهذا يعني أن هذه الانتخابات ليست حرة ولا نزيهة ولا شفافة، بل انتخابات من اتجاه واحد، لتكريس هيمنة حزب الدولة وسيطرته المطلقة على البرلمان. الديمقراطية الحقة تعني التعددية السياسية والانتقال السلمي للسلطة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وما شاهدناه في الأيام القليلة الماضية ليست له أي علاقة بهذا التوصيف، لا من قريب أو بعيد. انتخابات تذكرنا بمثيلاتها في الأنظمة الشمولية في الكتلة الاشتراكية قبل انهيارها، وانهيار نظام الحزب الواحد، عمودها الفقري الأساسي. الشعب المصري الطيب كان أكثر ذكاء وأبعد رؤية من كل أحزاب المعارضة السياسية عندما تعاطى مع هذه الانتخابات بلا مبالاة، كانت أبلغ من كل البيانات السياسية والأكثر تشخيصا للحالة، وفضل مقاطعة هذه الانتخابات بإحجامه عن المشاركة فيها لأنه يعرف نتائجها مقدما. فقد أدرك بحدسه، الناجم عن خبرة عريقة، بلورتها تجارب عديدة، أن الحزب الحاكم سيصوت لنفسه، وسيقرر هوية النواب الذين يريدهم، في برلمان صوري مستأنس، يصفق للزعيم ويبصم على مشاريع قراراته، دون مراجعة أو حتى الحد الأدنى من النقاش. الإخوان المسلمون ارتكبوا خطأ استراتيجيا فادحا عندما فشلوا في قراءة المزاج الشعبي العام، مثلما فشلوا في رصد نوايا النظام وتقويمها بشكل علمي مدروس، واعتقدوا أنهم يستطيعون زيادة عدد مقاعدهم في البرلمان (زيادتها من 88 إلى 130 مقعدا)، فخسروا مقاعدهم السابقة جميعا وحصلوا على «صفر كبير» في الجولة الأولى من الانتخابات. وربما يجادل بعض الذين أيدوا خيار المشاركة وعارضوا قرار المقاطعة بأنهم كانوا يريدون إحراج النظام وفضح ممارساته في التزوير والبلطجة، وكأن هذه الممارسات ليست مفضوحة ويعرف تفاصيلها أصغر طفل مصري. ما لم يفهمه ويدركه أصحاب القرار في حركة الإخوان المسلمين هو معادلة القوة والضعف التي تحكم النظام الحاكم وسلوكياته، وهي معادلة تتلخص في أنه عندما كان النظام قويا ويتمتع رأسُه بصحة جيدة ويؤدي دورا وظيفيا لمصلحة القوى الغربية في المنطقة على الوجه الأكمل، سمح بهامش من الديمقراطية والحريات الإعلامية وحافظ على الحد الأدنى من استقلالية بعض مؤسسات الدولة، والقضائية منها على وجه الخصوص، ولكن عندما ضعف النظام وبدأت قاعدته الشعبية تتآكل ومؤسساته السياسية تدخل مرحلة الهرم والشيخوخة ورأسُه يواجه مشاكل صحية، انقلب بالكامل على العملية الديمقراطية الهشة وتراجع عن هامش الحريات الذي منحه للصحافة وبدأ يتصرف مثل النمر الجريح، يتخبط ويخبط في جميع الاتجاهات، بعد أن ضاعت بوصلته بالكامل. كان هذا التوجه واضحا للعيان منذ أن أقدم النظام على إغلاق المحطات الفضائية المحلية وتكميم صحيفة «الدستور» وإرهاب القنوات الخارجية، من خلال فرض قوانين وإجراءات تحد من عملها بالكامل، ورفض أي رقابة خارجية محايدة على مسيرة العملية الانتخابية تحت ذريعة استقلالية القرار المصري، ومنع أي محاولة للتدخل في الشؤون السيادية حتى لو جاء من الولاياتالمتحدةالأمريكية العراب الرئيسي لمعظم أنظمة الاعتدال العربية. الأحزاب المصرية لم تلتقط هذه الإشارات، ومن التقطها فشل في تفكيك شيفرتها واستخلاص الدروس والعبر منها، ووجدت نفسها تقع في مصيدة أعدت لها بإحكام لتدمير ما تبقى لها من مصداقية في الشارع المصري. النظام المصري لو كان يتمتع بالحد الأدنى من الذكاء، لتصرف بطريقة مختلفة، خاصة بعد مطالبة المتحدث الأمريكي بانتخابات حرة ونزيهة بحضور مراقبين دوليين، من حيث السماح لأحزاب المعارضة بالفوز بنسبة أكبر من المقاعد في البرلمان، كرد على الإدارة الأمريكية وكل المشككين في نزاهة الانتخابات. فوجود المعارضة، والإسلامية منها بالذات، في البرلمان السابق خدم النظام أكثر مما خدم هذه المعارضة، وأضفى عليه، أي النظام، شرعية ديمقراطية لا يستحقها. فلم يحدث مطلقا أن عطلت هذه المعارضة مشروع قانون أو غيرت سياسات أو راقبت أداء السلطة التنفيذية. مجرد قطعة في ديكور ديمقراطي مزور. السؤال المطروح الآن هو عما سيحدث بعد «الصحوة المتأخرة» لأحزاب المعارضة، المتمثلة في مقاطعتها لانتخابات الإعادة والانسحاب من العملية السياسية برمتها. هناك عدة احتمالات يمكن رصدها على الشكل التالي: أولا: أن تنزل أحزاب المعارضة إلى الشارع في مظاهرات صاخبة، ونحن نتحدث هنا عن الأحزاب الفاعلة، مثل حزبي الإخوان والوفد، الأمر الذي قد يؤدي إلى حدوث صدامات دموية مع أجهزة النظام الأمنية، ووقوع خسائر في الأرواح تزيد من اشتعال الموقف. ثانيا: أن تلجأ أحزاب المعارضة والقوى الشعبية الأخرى إلى أساليب العصيان المدني والإضرابات والاعتصامات. ثالثا: أن تحدث انشقاقات، خاصة في صفوف حركة الإخوان المسلمين، وتلجأ الأجنحة المتطرفة التي عارضت الدخول في الانتخابات إلى أعمال عنف، مثلما حدث في مرحلة السبعينيات عندما أفرزت الأزمة السياسية في حينها جماعات متمردة، مثل حركة الجهاد الإسلامي، والتكفير والهجرة، والجماعة الإسلامية. من الصعب علينا أن نتنبأ بأي من هذه السيناريوهات هو أقرب إلى التحقيق، فمصر من أكثر البلدان في المنطقة غموضا، وأكثرها صعوبة على المنجمين السياسيين من أمثالنا. فمن الممكن أن تشهد ثورة عارمة تقلب الأوضاع رأسا على عقب، ومن الجائز ألا يحدث شيء على الإطلاق بسبب طبيعة الشعب المصري المسالمة، ظاهريا على الأقل. مصر وباختصار شديد، مقدمة على مرحلة صعبة، والأمور فيها مفتوحة على كل الاحتمالات، والشيء الوحيد المؤكد أن حزبها الحاكم وإن احتفل بفوزه الكاسح يوم الأحد فإنه قد لا يتمتع به، لأنه فوز «مزور» وبلا أي نكهة ديمقراطية. نتمنى لمصر، ومن كل قلوبنا، الاستقرار والبعد عن كابوس العنف.