تعددت مداخل التحليل لأحداث العيون بين النقاش حول الأداء الدبلوماسي الذي لم يكن فعالا إلى درجة عدم قدرته على إقناع البرلمان الأوربي بحالة الوقائع في مخيم العيون وزيف ادعاءات الإعلام الإسباني وممثلي الحزب الشعبي، والنقاش حول الأداء التواصلي الإعلامي المغربي الذي يبين أنه يفتقر إلى أدوات الدعاية للقضايا الوطنية ويعاني من ضعف في طريقة الإخراج الإعلامي للوقائع المرتبطة بقضايا أمن الدولة، لكن مقابل ذلك، يلاحظ أن النقاش حول التدبير الأمني لأحداث العيون ظل محدودا. ورغم أن السلطات الحكومية نقلت النقاش بتسليط الأضواء الحمراء حول الأسلوب الجزائري الجديد في تهديد التراب المغربي وحول استعمالات الإعلام الإسباني، فإن الأضواء الحمراء يجب أن توجه أيضا نحو المستوى الداخلي في طريقة تدبير الأجهزة الأمنية لأحداث العيون. فالسلطات العمومية قدمت معطيات حول أحداث العيون، يمكن استنتاج روايتين منها على الأقل: - رواية أولى تقول إن السلطات العمومية كانت على علم، منذ البداية، بمخطط الانفصاليين و»العائدين الانفصاليين الجدد»، لكنها تركت الوقائع تصل إلى ما هي عليه لتلقي القبض على العناصر الانفصالية العائدة وبعض المتسللين الأجانب لكشف المؤامرة التي تحوكها الجزائر والبوليساريو ضد المغرب. - الرواية الثانية أن السلطات العمومية تعاملت بحسن نية، كما يقول المسؤولون الحكوميون، مع أحداث المخيم واعتبرتها اجتماعية، إلى أن فوجئت باحتجاز المحتجين في المخيم كرهائن ونقل الصراع من طرف العناصر الانفصالية إلى مدينة العيون. لكن، يبدو أن هاتين الروايتين ليستا مختلفتين، لكونهما تلتقيان في نقطة واحدة وهي ضعف التدبير الأمني لأحداث المخيم، وعدم تقدير درجة مخاطره، وضعف مقدرات جمع المعلومات، وتحليل واستشعار وقائع المخيم قبل نصب أول خيمة في ضواحي العيون. ولننطلق من العلامة الأولى ونسترجع وقائع ما قبل المخيم وأثناء المفاوضات مع قيادات المخيم، ولنفترض أن دخول «العائدين الانفصاليين الجدد» ظاهرة اعتبرتها السلطات العمومية عادية، فكيف لم تنتبه السلطات الأمنية إلى أن العائدين كانوا يتهربون من البطاقة الوطنية (بطاقة الهوية)، وأن هناك من وضع أوراقا ولم يتسلمها إلى اليوم؟ كيف لم تنتبه إلى أن الهروب من إثبات الهوية معناه أن العودة كانت بهدف إنجاز مهمة محددة؟ وكيف لم تنتبه إلى ارتفاع درجة الجرائم مع عودة «الانفصاليين الجدد» قبل نصب المخيم بشهور؟ وهو تفسير لبداية بحثهم عن خلق حالة من الرعب وعدم الاستقرار. أكثر من هذا، كيف لم تنتبه السلطات الأمنية، في مرحلة ما قبل بناء المخيم، إلى ظاهرة الإقبال الكبير على شراء الخيم وشراء البلاستيك من العيون والسمارة وشراء الحبال والسكاكين، وكيف لم تنتبه إلى ظاهرة اقتناء قنينات الغاز الحمراء، وهي معروفة باختلافها عن قنينات الغاز الزرقاء لكون الحمراء تشير تكنولوجيا إلى البحث عن أداة سهلة وشديدة الانفجار، إضافة إلى إمكانية إعدادها في أماكن ومستودعات التهريب. وكيف لم تنتبه السلطات الأمنية إلى ظاهرة الإقبال، بشكل مثير للانتباه، على جعل السكاكين حادة (شحذ وتلميع السكاكين)، هل كل هذا الإقبال كان موجها إلى عيد الأضحى، وهل هو تقليد عادي لدى الصحراويين قبل عيد الأضحى؟ وكيف لم تنتبه السلطات إلى ظاهرة السيارات رباعية الدفع وهويات راكبيها في مدينة يحتج بعض من سكانها على قلة مواردهم الاقتصادية؟ وكيف دخلت الألبسة العسكرية والأموال المهربة من جزر الكناري؟ فالمعلومات الأولية في التحقيقات تشير إلى دخول أشخاص سبق أن هاجروا إلى الجزر بطريقة غير شرعية وعادوا ليؤسسوا جمعية سميت ب«التوافق والتنمية للمهاجرين»؟ ليس هناك شك في أن أول خيمة نصبت في مخيم ضواحي العيون وصلت في شكل معلومة إلى المديرية العامة للشؤون الداخلية بوزارة الداخلية في الرباط، لكن في دراسة المعلومة وتحليلها وتقدير درجة خطورتها من عدمه وقعت الأخطاء. ولنفترض أن المخيم لم يثر انتباه السلطات الأمنية وتعاملت معه بطريقة عادية، فلماذا لم تستطع أن تربط بين المخيم ورواج قنينات الغاز الحمراء أو بين المخيم وشراء البلاستيك بطريقة غير عادية من العيون وسمارة أو بين المخيم وتهرب «العائدين الانفصاليين الجدد» من بطاقات الهوية الوطنية؟ إذ يبدو أنه رغم تخطيط البوليساريو والجزائر، فإنهما ارتكبا أخطاء كان من الممكن للسلطات الأمنية الانتباه إليها عن طريق الاستشعار. ولماذا لم تنتبه السلطات إلى ظاهرة توافد الإسبان بكثرة بعد نصب المخيم؟ وكيف دخل الإسبان بصفتهم سائحين فتحولوا إلى صحفيين أو حقوقيين؟ أين هو إجراء التأكد من الهوية في المطارات والموانئ؟ وكيف أصبح هناك شخص «مكسيكي» الجنسية من مكونات جهاز المراقبة داخل المخيم؟ وإذا عدنا شيئا ما إلى الوراء، يبدو أن السلطات كانت تقلل من حجم مخاطر انفصاليي الداخل رغم أن هذه الظاهرة كانت أمامنا، فلا أحد يعرف ما إذا كانت هناك سجلات أمنية لمسارات الانفصاليين، وكيف أن المدعو «النعمة اسفاري»، الذي تشير المعلومات الأولية إلى أن قادة العملية الإرهابية ضد قوات الأمن في العيون كانت تنسق معه، انتقل من طالب بسيط أعد بحثا بمدرجات كلية الحقوق في مراكش تحت عنوان «دور المجتمع المدني في بناء الديمقراطية بالمغرب العربي» في السنة الدراسية 1994-1995 إلى أحد قيادات الانفصال في الداخل، وكيف أنه يقدم من طرف فرع منظمة «هيومن رايتس ووتش» ويستدعى إلى لقاءاتها الصحفية بقلب العاصمة الرباط كأحد «الحقوقيين»؟ يبدو أن أجهزة المخابرات المدنية بنت خبرتها في تتبع المتطرفين الإسلاميين فقط، وبالتالي فقد اشتغلت طيلة السنوات الماضية على مقاربة خطر الإسلاميين دون غيرهم، وهو ما يفسر عدد الخلايا التي تم تفكيكها، مقابل أن حدث العيون يبين أننا أمام خلية إرهابية من نوع جديد. وبالعودة إلى تدبير المفاوضات مع قيادات المخيم، كيف لا تستطيع أطر وزارة الداخلية تدبير الحوار دون الحاجة إلى حضور وزير الداخلية شخصيا؟ وهل انتبهت هذه الأطر إلى أن رفع قيادات المخيم سقف التفاوض بطلب حضور وزير الداخلية معناه، في تدبير المفاوضات، البحث عن تعويم المفاوضات وتجسيد الأزمة في المتفاوض معه؟ ولعل هذا ما سمح لقيادات المخيم بأن ترفع سقف المطالب أمام وزير الداخلية بتقديم مطلب يسعى إلى إضعاف مؤسسة الدولة، وهو المتمثل في الإصرار على أن تعفو الدولة عن مجرمين مبحوث عنهم قضائيا. هل كان هناك تحليل نفسي من طرف وزارة الداخلية لكل هذه الوقائع التي تجري في المفاوضات، وفي ميدان المخيم؟ وبعد نهاية الأحداث، كيف تصاغ بلاغات وزارات الداخلية والخارجية والاتصال دون أن يتم بناؤها على الفكرة التي يمكن أن تردع المجتمع الدولي، بما فيه الإسبان والبرلمان الأوربي والأمم المتحدة نفسها، وهي في جملة واحدة أن «وقائع العيون هي ضربة إرهابية جديدة ضد المغرب شبيهة بتفجيرات الدارالبيضاء»، هل هناك فعل إرهابي أكبر من أن يذبح أحد أفراد القوات المساعدة من طرف أحد الانفصاليين؟ لماذا لم تتم صياغة هذه الوقائع المصورة في بيان مبني على فكرة الإرهاب، حتى نحمل المجتمع الدولي مسؤوليته، وحتى لا نصبح أمام القرار الذي صادق عليه البرلمان الأوربي ونحتج عليه اليوم، فليس هناك فعل إرهابي أكبر من أن يُخرج أحد أفراد القوات العمومية من سيارات العمل الإنساني ويُضرب حتى الموت، ويتم التبول على جثته، هل هناك ديانة أو معتقد أو فكر في تاريخ البشرية يدعو إلى التبول على جثث من يموتون قتلا؟ يبين حدث العيون وجود فراغات أمنية يجب التدخل لسدها، فالمديرية العامة للشؤون الداخلية بوزارة الداخلية، التي تشتغل بمقاربة قديمة مبنية على معادلة «أمن الدولة قبل امن المواطن»، تحتوي على مديريتين لجمع وتحليل المعلومة ودراسات توجهات السكان، وهو ما يعني أن إمكانية التحليل النفسي للميدان كانت متاحة منذ بداية شراء الخيم ودخول قنينات الغاز الحمراء، إضافة إلى أن مديرية الهجرة ومراقبة الحدود تملك جميع الوسائل المتاحة للبحث عن معلومات انتقال الأشخاص والأموال والتدخل لحماية الحدود، خاصة وأن مخاطر الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية واضحة، فكيف لشخص، وهذه واقعة أخرى تبدو بسيطة لكن أبعادها الأمنية خطيرة، أن يتمكن من إدخال 10 آلاف حبة من «الأقراص المهدئة لآلام الرأس» مصنوعة في الجزائر، حسب ما ذكرته إحدى الصحف، ولا يتم إلقاء القبض عليه إلا في سيدي علال البحراوي على مشارف العاصمة الرباط. لقد حدث في منتصف هذه السنة أن جمعية تنموية محلية بمدينة العيون وجهت إلي دعوة للمشاركة في أشغال ندوة حول الجهوية في المغرب العربي، ومن المسائل التي طلبها المنظمون أن يقدم المتدخلون، وهم جامعيون مغاربة، سِيَرهم الذاتية بحجة أن المسؤولين في الولاية والأمن طلبوا هذه البيانات، لم أشارك بسبب هذا الطلب، ولا أعرف إلى حد الآن هل، فعلا، طلب المسؤولون هذه البيانات أم لا؟ لكن إذا كانت هذه البيانات قد طلبت منا كجامعيين داخل المغرب، فهذا شيء جيد لتدقيق المعلومات الأمنية، ولكن جمع المعلومة الأمنية ينطلق من الإقبال على شراء قنينة الغاز الحمراء إلى تنظيم ندوة علمية تساهم في التعريف بالقضية الوطنية.