الذين عرضوا إلى لأحداث العيون الأليمة، تجاهلوا الجهر بحقيقة ساطعة، وهي أنها شكلت مفترق طريق بين ما قبلها وما بعدها من تداعيات. ولأن السياسة لا تقوم على مبدأ التبرير، فإن العبرة الأولى، التي يتعين استخلاصها، تكمن في القطع مع كل الممارسات التي أدت إلى وقوع ما حدث. الرأي العام الأمريكي والغربي ودعاة السلم والتعايش ورفض العنف والإرهاب انتفضوا ضد الهجمات الإرهابية المدانة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكان مفهوما أن التحالف الدولي، الذي انبثق في أعقاب تلك الهجمات، انصب على رفض الاستسلام لأي نوع من الابتزاز، الذي يستبيح هدر أرواح الأبرياء، بصرف النظر عن أعراقهم وأجناسهم وألوانهم ومذاهبهم. صحيح أن الحرب على الإرهاب لم تسر في الاتجاه الصحيح، نتيجة مغالاة المحافظين الأمريكيين وتحوير أهدافها، التي اعتمدت لتبرير الغزو الأمريكي للعراق، وصحيح أيضا أن منطق الكيل بمكيالين هيمن على تحديد مفاهيم الإرهاب، خصوصا عند تصنيف المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي على أنها نوع من الإرهاب، إلا أن انتفاضة الضمير العالمي كانت تعني أن ما من شيء أو قضية يمكن أن يدفعا إلى تبرير الأعمال الإرهابية، مهما كان مصدرها وطبيعتها. ما من دولة متحضرة إلا عانت من تطاير شظايا الإرهاب عابر القارات الذي تحول إلى مرض العصر، وقد كان للمغرب نصيبه في الاكتواء بالظاهرة المقيتة التي أفلحت في صنع وتجنيد انتحاريين مغاربة، لكنها لم تفلح في النيل من تماسك المجتمع المغربي، ووعيه المتجذر بأن استهداف الأبرياء بطرق وحشية يراد في أساسه النيل من الاستقرار والأمن والتعايش، باعتبار أن هذه القيم هي التي تصنع الوجود المغربي القابل لمواجهة أعتى التحديات. الاثنين الدامي في العيون كان امتدادا لتلك الهجمات الإرهابية، فقد تختلف الأسماء والوجوه والأماكن وآليات اصطفاف الإرهابيين، لكنها تلتقي عند هدف واحد، هو محاولة النيل من وحدة البلاد عبر زرع بذور التخويف والرعب والفتنة العرقية التي تعتبر أخطر أنواع الفتن التي تهدم بنيان المجتمعات. هل هي الصدفة أنه بعد يوم من تخليد المغاربة ذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية، جاءت الهجمات الانتحارية في السادس عشر من ماي؟ وهل هي الصدفة كذلك أنه بعد يومين من تخليد الشعب المغربي ذكرى المسيرة الخضراء، تم ذبح وتقتيل أفراد من القوات العمومية في العيون؟ لا رابط بين الحدثين من حيث التوقيت، إلا أن تعرض المغرب لأعمال إرهابية يبقى في حد ذاته مؤشرا على أنه لا يزال وسيبقى مستهدفا في وجوده المتحرر. والسبب في ذلك لا يعود إلى كونه جزءا من العالم المستهدف في قيمه الحضارية فقط، ولكن ضريبة الجوار تكون أحيانا أشد وطأة من أي ضريبة أخرى. وطالما أن الجزائر لم تتمكن من التخلص من الظاهرة الإرهابية التي أفقدتها السيطرة على مجالها الحدودي، إلى درجة تبعث على التساؤل إن كانت هناك إرادة حقيقية في القضاء على الظاهرة، فإن هذه التحديات ستظل قائمة. في غشت 1994، عمدت الاستخبارات الجزائرية إلى تجنيد إرهابيين يحملون الجنسية الفرنسية ويتحدرون من أصول جزائرية لشن هجمات على فندق أطلس أسني في مراكش، بهدف تدويل الظاهرة الإرهابية على الصعيد الإقليمي. وها هي اليوم تعود من نفس البوابة الضيقة إلى محاولة جديدة لتصدير تعفناتها إلى الصحراء الآمنة، بنفس الهدف والآليات واختلاف الشخوص والملابسات فقط. ما يهم الآن أن صفحة طويت وفتحت أخرى على مقاس كتاب المغرب بتاريخه وجغرافيته وتطلعات أبنائه. وإذ يسود اعتقاد بأن المغرب نجح في احتواء أخطر مؤامرة دبرت ضد وحدته الترابية منذ عام 1975، فإن هذا النجاح يتطلب سيادة منطق جديد، سواء كان ذلك على صعيد التزام المزيد من الحذر والاحتراس واليقظة إزاء ما يحاك ضد سلامة البلاد، أو على صعيد التعاطي مع ملف الصحراء من منطلقات جديدة، ليس أبعدها الربط بين معركة تثبيت السيادة والوحدة وبين صيانة الوجود. ومع التأكيد أن قضية الصحراء لم تكن، في أي وقت، قضية حكومة، أو نظام، بل قضية دولة بمكوناتها التي تشمل الأرض والسيادة والشعب، فإن الأساس الآن هو استيعاب الدروس من كل أنواع التلكؤ والتساهل وغض الطرف عن ممارسات خارجة عن القانون. فلن نكون البلد الوحيد في العالم الذي يخطو قدما نحو التطبيع مع قيم حقوق الإنسان، دون أن يكون لهذا الالتزام الكوني مضاعفاته. ودلت تجارب إنسانية على أن بعض الدول تم تفكيك أوصالها تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان. الأصل في حقوق الإنسان هو أن يعاينها الشعب في صورة إنجازات على أرض الواقع، يحولها إلى مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لا أن تصبح وسيلة للابتزاز وزرع بذور الفتنة، وبالتالي فإن أولى مقومات دولة الحق والقانون تكمن في تثبيت الاستقرار أولا. ولن يكون هناك أي استقرار في حال استمر الوجود العبثي لدعاة الانفصال بين ظهرايننا. نعم، بالإمكان الاتفاق على تشكيل تيار من بين بعض المجموعات المنعزلة لن يؤثر في مسار الالتزامات الوحدوية للدولة المغربية، غير أن تصوير «الإذعان» لمبدأ حقوق الإنسان وكأنه حالة ضعف جلب علينا المتاعب والكوارث، ولم يجلب الأهداف النبيلة لهذه القيم. وعلى الذين روجوا لطروحات مغرضة بهذا المعنى أن يتذكروا أن حقوق الأوطان أكبر وأرسخ من حقوق الإنسان. كذلك يبدو مفيدا تكريس اختيار نهائي بين الولاء للوطن والانصياع لخصومه. فليس هناك دولة في العالم تقبل أن يتربى الانفصاليون بين أحضانها، يدرسون في جامعاتها ويصرف عليهم دافعو الضرائب كي يوجهوا للبلاد سهام الحقد والكراهية. لقد انتهى عهد التساهل وحان وقت الاختيار، وستظل أرواح شهداء العيون مثل مثيلاتها الطاهرة لأفراد القوات المسلحة الملكية وكل فصائل الدفاع الوطني أمانة في عنق الجميع. والأهم أن الحادي عشر من سبتمبر على الطريقة المغربية لم يصب البلاد في مقتل. فقد جاءت ردود الفعل ذات الحس الوطني أكبر من شبحه الزائل. فقد كان لهذا التاريخ أحداثه في الذاكرة، ولن يكون له ما يليها غير القطع مع أي ممارسات تؤدي إلى النفق المسدود.