أقصى ما يمكن أن يتصوره المواطن المغربي، في المستقبل القريب، اختفاء المياه من الحنفيات لأيام، أو أن يضطر إلى قطع كيلومترات عدة حتى يحصل على كمية صالحة ونقية منها، أو يضطر إلى دفع فاتورتها الشهرية أضعافا لما يدفعه من استهلاكه حاليا، أو يشربها ملوثة في بعض المناطق الصناعية، بل أكثر من ذلك قد يمنع على المزارعين إنتاج نوع معين من الخضروات التي كانوا ينتجونها بوفرة والتي تحتاج إلى كمية معتبرة من المياه وتضطر الدولة إلى استيرادها لتسد حاجيات السوق الداخلي منها! كل المؤشرات السابقة تلميحات إلى صورة سوداء. عدة معطيات تجعلها واقعة وحادثة، قد لا تكون بهذه الدقة وفي هذه التجليات الموصوفة، إلا أن كل المعطيات تؤكد الأزمة المائية القادمة! حسب التقرير الأخير (2010) ل«المنتدى العربي للبيئة والتنمية»، فإن الدول العربية -ومن بينها المغرب، طبعا- ستواجه، بحلول عام 2015، ندرة حادة في المياه. ولم يستثن التقرير من وضعية الندرة الحادة هذه سوى دولتين هما: العراق الواقع تحت نيران الاحتلال، والسودان الذي ينتظره مستقبل غامض خلال الشهرين المقبلين. وحسب التقرير دائما، فإن الحصة السنوية للفرد ستنخفض إلى أقل من 500 متر مكعب، مع العلم بأن المعدل العالمي الذي يجب أن يحظى به الفرد يتجاوز 6000 متر مكعب، بل الأسوأ من ذلك أن ست دول عربية تنخفض فيها حصة الفرد حاليا إلى 100 متر مكعب!! إنها وضعية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها كارثية وتنذر بمستقبل مائي ملؤه الصراع حول الينابيع! بالعودة إلى الوضعية المائية التي تنتظر المغرب، نجد أن تقرير الخمسينية وضع لها تشخيصا مقتضبا منذ خمس سنوات، فهي، لاعتبارات المناخ الذي يتسم به البلد شبه الجاف، لا تتوفر إلا على موارد مائية طبيعية محدودة لا تتعدى 29 مليار متر مكعب سنويا، منها 70 في المائة من المياه السطحية، و30 في المائة من المياه الباطنية، والإمكانيات التقنية والاقتصادية لا تمكن البلد إلا من 19 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 700 متر مكعب للفرد سنويا. وإذا كانت هذه الوضعية قد شخصت منذ خمس سنوات فلاعتبارات مناخية، أيضا نرجح أن يكون المعدل السنوي في حالة استقرار طوال الخمس سنوات الماضية، فخلالها شهد المغرب معدلا من التساقطات على إثرها سجلت نسب ملء في السدود لم تسجل قط في تاريخها، وإلى حدود يناير من السنة الماضية بلغت نسبة الملء الإجمالية 88 في المائة وبلغت في بعض السدود 100 في المائة. صحيح أن سياسة السدود التي أطلقها المغرب منذ 1967 كان لها الأثر الأبرز في تجنيب البلد سنوات من الندرة المائية ربما تصل إلى 40 سنة، واستطاعت هذه السياسة الحكيمة أن تمنح فرصة كبيرة لهذا البلد لإيجاد بدائل أخرى تكون، إلى جانب السدود، المحدد الاستراتيجي لأشكال التعبئة في هذا القطاع. وهنا لا بد من تأكيد أن المغرب ربما لم يتمكن من استغلال الفرصة الثمينة التي وفرتها سياسة إنشاء السدود طوال السنوات الماضية بالشكل المطلوب ووضع السدود في ميزان المخلص الوحيد والدائم من كل المشاكل التي ستعترضنا في المستقبل. ما يجب تأكيده هو أن المعدل السنوي، في ظل التعبئة القوية للمدخر المائي وفي ظل الحاجة الكبيرة، يؤكد أن المعبأ يقع دائما في خط الندرة إن لم نقل تحته، وبالتالي لا يمكن أن نتصور يوما ما، أمام هذه المعطيات، أن نرتفع عن معدل الندرة، سواء الذي صوره تقرير «المنتدى العربي للبيئة والتنمية» أو النسبة المشخصة في «تقرير الخمسينية» التي تعتبر نسبة واقعة أصلا في خط الندرة. إن المحافظة على نسبة الفرد من المياه على ما هي عليه اليوم أمر صعب للغاية، فالمناخ المغربي يشهد اليوم تقلبات عميقة، وبالتالي لا يمكن الاعتماد على التساقطات المطرية في السنوات القليلة المقبلة لرسم الاستراتيجية العامة للتعبئة، وبالتالي البحث عن البدائل يجب أن يكون جزء لا يتجزأ من سياسة الحفاظ على الأمن المائي للبلاد! إن ما يصعب مهمة المغرب في البحث عن بدائل للتعبئة هو استمرار مجموعة من الظواهر الفتاكة والخطيرة كتصريف المياه العادمة والملوثة في الأنهر والمحيط والبحر والمسالك الطبيعية، ولم تشكل هذه السياسة العشوائية تهديدا لتنويع المصادر المستقبلية بل أضحت اليوم تستنزف من الناتج الداخلي الإجمالي مبالغ باهظة جدا، وتهدد الحياة الطبيعية والنظام الإيكولوجي! ربما من جملة التدابير، التي يجب على المغرب اتباعها في هذا المجال للحفاظ على أمنه المائي وتجنب «الحرب» القادمة وحالة الجفاف العظيم التي ستضرب المنطقة العربية، التفكيرُ بجدية في كيفية القضاء على الأنماط التقليدية السائدة في استغلال مياه السقي في الفلاحة المغربية. فالسقي بالغمر، مثلا، يعتبر مستنزفا حقيقيا للموارد. ثم التفكير بجدية كذلك في تنويع المزروعات وعدم الاقتصار على ما يستهلك المياه منها! غير أن الخطوة الكبيرة التي يجب أن ترافق سياسة واستراتيجية عامة تتجلى في نقطتين اثنتين: الأولى تكمن في وضع مخطط جدي لتحلية مياه البحر والمحيط والاستفادة من تجارب عدة دول خليجية في هذا الميدان، والنقطة الثانية تتعلق باستغلال تكنولوجيا الفضاء وما يسمى ب«معلومات طبوغرافيا الأرض»، وهي معلومات -حسب فاروق الباز، مدير «مركز أبحاث الفضاء» في جامعة بوسطن الأمريكية- مسموح باستخدامها في الدقة المحددة في 90 درجة، وهي تؤهل للتعرف على تضاريس الصحراء، ليس فقط في الوقت الحاضر ولكن حتى في المراحل الغابرة التي شهدت تساقطات مطرية مهمة تحويها بطون، فبواسطة هذه التقنية استطاع الباز أن ينجز مشروع حفر 500 بئر في جنوب غرب مصر وإنتاج مياه غزيرة تكفي لزراعة أكثر من 150 ألف فدان لمدة 100 سنة! إذا كانت الأجيال السابقة قد منحت للأجيال الحالية أمنا مائيا جنبنا سنوات من الجفاف، فما الذي سنتركه نحن «كإرث مائي» -إن صح التعبير- للأجيال القادمة؟!