يرى البعض أن أحداث العيون كشفت عن أخطاء السلطات المحلية في توقع المخاطر وأبانت عن عدم إدراك الأجهزة المغربية للمخطط الانفصالي في اختراق الصحراء بأساليب جديدة. ولئن كان هذا الرأي يعكس جانبا من الحقيقة في شقه الأول، فإنه يجانب الصواب في شقه الثاني لكون الخطة الجديدة لخصوم الوحدة الترابية للمغرب كانت واضحة المعالم منذ الشروع في التحضير لها ولم يكن من الصعب معرفة مضامينها. ولربما اختارت السلطات المعنية الاقتصار على مراقبة ترتيبات التنفيذ لأغراض استراتيجية كشفت، في آخر المطاف، عن النزعة الإرهابية لدى الانفصاليين وتآكل أطروحة الدفاع عن تقرير المصير التي تروج لها الجزائر على مدى أكثر من 35 سنة. خلفيات تغيير خطة الانفصاليين بعدما أدركت السلطات الجزائرية الاستراتيجية المحكمة للمغرب للتصدي للطرح الانفصالي على كافة المستويات، حاولت البحث عن منهجية جديدة لاستمرار هيمنتها على تدبير النزاع وتخفيف الحصار على قيادة البوليساريو. وترتبط هذه المنهجية بأربعة عوامل متكاملة في ما بينها: - العامل الأول يتعلق بفشل الخيار العسكري منذ إقامة الحزام الأمني وما يوفره من حماية ضد أية محاولة للاختراق العسكري أو الإرهابي، فضلا عن تحكم القوات المسلحة الملكية في مراقبة الميدان واستعدادها الدائم للتصدي لأية مغامرة عسكرية، - ويتجلى العامل الثاني في الكشف عن تورط جبهة البوليساريو في العمليات الإرهابية في منطقة الساحل عن طريق تجنيد مقاتليها في الشبكات الإرهابية، وهو ما تؤكده عدة تقارير دولية، - أما العامل الثالث فيتمثل في تداعيات محنة مصطفى سلمى ولد سيدي مولود وما أدت إليه حملة التنديد والاستنكار من إحراج للجزائر ومليشيات البوليساريو، - ويتعلق العامل الأخير بتزايد ردود الفعل الدولية الإيجابية حول مبادرة الحكم الذاتي وما يشكله ذلك من إحباط مستمر لطموحات الجزائر ومصالحها الجيواستراتيجية في الصحراء. ومن المؤكد أن هذه العوامل، وهي تتكامل في ما بينها، أدت إلى إدراك الجزائر للمخاطر التي باتت تحاصر جبهة البوليساريو، فحاولت تنفيذ خطة جديدة تم الإعداد لها بدقة وفق مجموعة من الترتيبات انطلاقا من تنظيم ندوة في شتنبر الماضي بالجزائر حول «دعم المقاومة في الصحراء»، تم توظيفها للتأطير والتحريض على العنف وعلى أعمال الشغب. وبالموازاة مع ذلك، أصبحت جبهة البوليساريو تعمد، بتنسيق مع الأجهزة الأمنية الجزائرية، إلى إقحام عناصر مدربة ضمن أفواج العائدين إلى أرض الوطن، وهو ما يفسر التساهل مع تزايد هذه الأفواج بكيفية جعلت عدة آراء تشكك في النوايا الحقيقية للأعداد المتزايدة لهؤلاء، خاصة منهم الشباب، بل هناك من حذر من الاستمرار في استقبال هؤلاء لكونهم ازدادوا في المخيمات وتربوا على ثقافة معادية للمغرب ومن شأن تعبئتهم لتنفيذ أجندة خصوم الوحدة الترابية أن تجعله (المغرب) محفوفا بالمخاطر لكون انتقالهم من محيط قمعي خاضع لرقابة صارمة إلى فضاء تتسع فيه الحريات والحقوق يساعد على سهولة تنفيذ أعمال الشغب والتخريب. إلى ذلك، يضاف تكثيف المحاولات الاستفزازية للانفصاليين بمساعدة نشطاء إسبان عبر أشكال مختلفة في عدة مناسبات، وذلك لجس نبض الأجهزة الأمنية وقياس درجة تأهبها ومدى صرامتها ضد العمليات المحتملة. ولم يقتصر الأمر على العيون بل تم تنفيذ هذه المحاولات في مدن أخرى ( تكرار الأعمال الاستفزازية في ساحة المحكمة بالدار البيضاء). ولئن كانت هذه الاستفزازات لم تواجه بالصرامة الأمنية اللازمة بفعل احترام ما يفرضه فضاء الحريات من التزامات، فإن الانفصاليين استغلوا هذا الوضع لتكثيف أنشطتهم بحرية، سواء على مستوى التحرك أو على مستوى التأطير، مما ساعدهم على الانتقال -عن طريق التحكم عن بعد- إلى مرحلة ثانية لتنفيذ أجندة محددة لخلق الحدث وتوظيفه في حرب إعلامية تسخر لها أبواق مأجورة ضد الوحدة الترابية للمغرب، وذلك بهدف تحويل الأنظار من تندوف إلى الصحراء. وهي الخطة التي دشنتها أحداث العيون التي تم اختيار توقيتها بدقة (انطلاق المباحثات غير الرسمية بنيويورك). وإذا كانت أغلب التحاليل تربط هذه الأحداث بتقصير السلطات المحلية في منع مخيم أكديم إزيك باعتباره ظاهرة شاذة يصعب تفسيرها بمطالب اجتماعية واقتصادية، فإن هذا المخيم تم توظيفه، منذ إقامته، في حملة إعلامية واسعة النطاق وتقديمه على أنه تارة «مخيم الاستقلال» وتارة أخرى «مخيم الحرية»، وهو ما كان يؤشر على خلفية مدبرة، ليس فقط لأغراض دعائية وإنما أيضا لتهديد الاستقرار والأمن في الصحراء. فوسائل الإعلام الجزائرية لم تكُفّ، منذ أحداث العيون، على تقديم التقارير المزيفة والخادعة، فهي تروج لتعرض سكان الصحراء لهجوم مسلح وتقدم أرقاما مغلوطة ومتناقضة حول الضحايا والخسائر. والواقع على خلاف ذلك، بدليل أن كل القتلى ينتمون إلى الأجهزة الأمنية، مما يفسر أن الهجوم كان مضادا وأن مهمة قوات الأمن انحصرت في حماية سكان المخيم ضد أعمال العنف والترهيب لشرذمة الانفصاليين دون أي استعمال للأسلحة النارية، وهو ربما خطأ ساهم في تمادي هذه الأعمال وارتفاع عدد الضحايا في صفوف قوات الأمن. أما وسائل الإعلام الإسبانية فيتضح أنها لم تتمكن، إلى حد الآن، من تجرع مرارة استرجاع المغرب للصحراء ولازالت تحركها هواجس استعمارية للتعامل مع الصحراء، فقد فضلت بعض القنوات التضحية بالمهنية والمصداقية ولجأت، من أجل أغراض سياسية وعدائية، إلى بث صور لأطفال غزة، ضحايا العدوان الإسرائيلي سنة 2006، وكذا صورة لجريمة للحق العام بسيدي مومن، سبق للتلفزيون المغربي أن بثها في يناير 2010، محاولة بذلك إيهام الرأي العام الدولي بأنها صور لضحايا مدنيين بالعيون. ولم يقتصر الأمر على الصحراء بل استهدفت الخطة الجديدة تكثيف الاستفزازات ضد مقرات البعثات الدبلوماسية والقنصلية للمغرب في الخارج. متطلبات ما بعد أحداث العيون إذا كانت أحداث العيون قد فضحت النزعة الإرهابية والتخريبية للانفصاليين، فإنها بالمقابل كرست الاقتناع لدى سكان الصحراء الوحدويين بأن تمسكهم بمغربية الصحراء اختيار صائب وأن مقاومتهم للانفصال مظهر للوطنية الحقة. كما أنه على الجزائر الانتباه إلى أن ما تخطط له في الصحراء سيشكل، لا محالة، سابقة تستند إليها مناطقها التي لها طموحات انفصالية (منطقة القبايل، مثلا)، وعندئذ سيصعب عليها رفض الاستجابة لهذه الطموحات، فمادامت تروج لدعم حق تقرير المصير في الصحراء فسيكون عليها من باب أولى الاعتراف بهذا الحق لفائدة مواطنيها. إلى ذلك، يضاف أن انكشاف الخطة الجديدة لخصوم الوحدة الترابية يمس ببناء الثقة بين الأطراف ويعقد، بالتالي، مسار التفاوض من أجل تسوية سياسية، وهو ما يعيد النزاع إلى المراحل الأولى لانطلاقه. وأمام هذه الحقيقة، أصبح من المفروض مراجعة طريقة تدبير الشأن العام في الصحراء لتدشين محطة جديدة لما بعد أحداث العيون، تستمر فيها التعبئة لمواجهة مخططات خصوم الوحدة الترابية وتنفذ فيها مقاربة متطورة تترجم المتطلبات التالية: أولا: اعتماد آلية جديدة لتنمية الأقاليم الصحراوية تعتمد على القرب وتعبئة الوسائل وتقييم النتائج بغية تحديد المسؤوليات. ومن المؤكد أن القرار الملكي بإحداث وكالة خاصة بهذه الأقاليم يندرج ضمن هذا التصور. ثانيا: ضرورة الانتقال من منطق الامتيازات والاتكال على عطاء الدولة إلى منطق الاستحقاق ومساواة الجميع أمام القانون. فكلما اتسعت دائرة التعامل التفاضلي كلما ازدادت المطالب واتسع نطاق انتقاد الدولة. وتتطلب هذه الآلية إلغاء الامتيازات، بما في ذلك امتيازات أثرياء الصحراء، لكونها تشكل مصدرا للانتقاد والتعبير عن القلق بين سكان الصحراء. فالوطنية الحقة لا تعلق على شروط ولا ترتبط بالاستفادة من مكاسب خاصة. ثالثا: اعتماد الصرامة وفرض هيبة الدولة عن طريق الزجر والعقاب كلما تم الإخلال بالقانون. ويكفي لمراعاة هذه الآلية تفعيل الخطاب الملكي الملقى بمناسبة الذكرى ال34 للمسيرة الخضراء (لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة). ويتعين الانتباه إلى أن التزام الأفراد والجماعات، في أي إقليم كانوا، بمتطلبات المواطنة يترجم تكلفة الانتماء إلى دولة المؤسسات التي يسمو فيها القانون على الجميع. وأخيرا، اعتماد تصور جديد لتدبير ملف العائدين يقوم على أساس ترتيبات محكمة لإدماجهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بما يتطلبه ذلك ليس فقط من تأهيل وتكوين في المجالات المهنية وإنما كذلك من مساعدة على تخطي أزمة الهوية (التعريف بتاريخ المغرب وحضارته، تقوية روح المواطنة...). وبالموازاة مع ذلك، فالحيطة والحذر باتت تفرض عدم الاستمرار في فتح الباب على مصراعيه أمام هؤلاء. فحتى على فرض حسن النوايا، فإن الاستمرار في المقاربة التقليدية للتعامل مع هذا الملف لن يكون مجديا ويخدم أكثر مصالح الطرف الآخر لكون استقبال العائدين، خاصة منهم الشباب، يساعد في هذه الحالة على تخلص المخيمات من العناصر التي لها نزعة معارضة للطرح الانفصالي، وهو ما يخفف من حدة الضغط على قيادة البوليساريو، ومن ثم فالمكوث في المخيمات والنضال من الداخل من شأنه أن يؤدي إلى اتساع دائرة القلق والمعارضة، وهو ما تكون له إيجابيات أكثر بكثير من العودة إلى الصحراء.