عندما نسمع اسم البرازيل، يقفز إلى أذهاننا مباشرة اللون الأصفر، لون منتخب الكرة، وأسماء نجومه على الملاعب، لكننا لا ننتبه كثيرا إلى أن البرازيل ليست مجرد مدرسة للكرة فقط، بل هي مدرسة كبيرة للديمقراطية. قبل بضعة أيام، انتهت الولاية الرئاسية الثانية للرئيس لُولا دا سيلفا، الذي اختير رئيسا لولايتين متتاليتين، من 2002 إلى 2010، وقرر مغادرة السلطة رغم أن كثيرين كانوا يتوقعون أن يفعل ما يفعله غيره، أي أن يلجأ إلى تعديل الدستور ليبقى في الحكم أطول فترة ممكنة، لكنه قال بعبارة صريحة: لقد ناضلت ضد الخلود في السلطة، فكيف تريدون مني أن أحِل لنفسي ما أحرمه على غيري؟ لُولا يغادر اليوم رئاسة البرازيل بعد أن حقق أشياء يصفها المراقبون بالمعجزات. لقد استطاع إدخال ملايين الفقراء البرازيليين إلى خانة الطبقة الوسطى، وترك في ميزانية الدولة فائضا تاريخيا يقارب 200 مليار دولار، وحازت بلاده على أحقية تنظيم أولمبياد 2016، وأصبح حزبه (الحزب العمالي) أقوى الأحزاب السياسية في البلاد، وعندما غادر الرئاسة فإنه ترك في منصبه امرأة من نفس الحزب، لكي تكمل المسيرة التي بدأها، وهي وضع البرازيل على سكة البلدان الصناعية الكبرى، والاستمرار في نقل ملايين الفقراء من الفقر المدقع إلى مواطنين كرماء لا يمدون أيديهم إلى غيرهم. في البرازيل يسمون لُولا «بطل الفقراء»، وهم محقون في منحه هذه الصفة لأنه قرر أن يحارب الفقراء بلا هوادة، ليس عبر إغراقهم في فقرهم، بل عبر انتشالهم من بؤسهم، وأولئك الفقراء هم الذين ظلوا أوفياء لسياسته فقرروا التصويت لفائدة خيلفته. لُولا لا يشبه الآخرين. لم يولد في عائلة تحتكر المال والجاه والسلطة كحال الكثيرين الذين يجدون أنفسهم يحكمون بالقضاء والقدر. إنه رجل يحمل في يده اليسرى أربعة أصابع فقط لأن أصبعه الخامس فقده خلال عمله في أحد مصانع الميكانيك. ولد لُولا في عائلة فقيرة حتى العظم، مكونة من ثمانية أولاد وبنات، هجرهم والدهم مبكرا وهرب رفقة ابنة عمه، فتحملت الأم بناء أسرة ثقيلة الأعباء ونجحت في ذلك، والأم أم مهما اختلفت الألوان والجنسيات. لم يتمكن لُولا من الحصول على تعليم كاف لأنه قرر أن يشتغل مبكرا بعد أن وصل، رفقة عائلته، من بلدتهم إلى مدينة «ساوباولو» على متن شاحنة عارية جالت بهم الفيافي والأدغال لأسبوعين كاملين، وعمله الأول كان ماسح أحذية في شوارع ساوباولو، وهي «مهنة» قضى فيها سنوات طويلة، لمّع فيها آلاف الأحذية، ولم يكن يرفع رأسه عن الأرض إلا لماما. ترقى لُولا بعد ذلك وصار يشتغل صبي سخرة في محطة للبنزين، ثم مساعدا في ورشة ميكانيك، ثم ساعده شقيقه الأكبر على دخول معمل سيارات، وتلك كانت البداية لكي يدخل غابة متشابكة أخرى، غير غابة الأمازون، وهي غابة الاستغلال الفظيع لمئات الآلاف من العمال من طرف شركات السيارات العملاقة. صار لُولا ينط من منصب إلى آخر في نقابات العمال حتى صار رئيسا لواحدة من أكبر النقابات العمالية، وفي سنة 1980 أسس الحزب العمالي الذي ترشح باسمه للكونغرس فنجح، لكنه فشل في الوصول إلى منصب رئاسة البرازيل ثلاث مرات متتالية، لأن أفكاره الاشتراكية والاجتماعية كانت ترعب الطبقات المتنفذة والوسطى في البلاد. لكن محاولته الرابعة نجحت، وعندما صار رئيسا لم يسعَ إلى الانتقام من تلك الطبقات التي وقفت في وجهه، بل مد يده إلى عشرات الملايين من الفقراء الذين وقفوا إلى جانبه، ووضعهم جنبا إلى جنب مع أولئك الذين كانوا يقفون ضده، وهذه هي العدالة الاجتماعية، كما يراها لُولا، وكما يجب أن يراها الجميع. رئيس الفقراء، وهو يغادر الرئاسة الآن، صار محروما من فقرائه الكثيرين لأنهم لم يعودوا فقراء، وهذا مصدر فخر كبير له. إنه رئيس يساري بأفكار ثورية، لكنه أيضا براغماتي حتى النخاع. يرى أن من يريد أن يغتني فعليه أن يفعل ذلك بالطرق السليمة، وأن الأغنياء يجب أن يمسكوا بأيدي الفقراء حتى تسير البلاد كلها بسرعة واحدة ومنسجمة، وبفضل ذلك تتحول البرازيل إلى قوة كبرى. كل ما يريده لُولا يبدو أنه حققه...