رأينا مختلف مواقف أهل العلم من مسألة التقريب. وأواصل الحديث في الموضوع بناء على الموقف المرحب بالتقريب أو المتحفظ عليه، فكلاهما يشترك في القبول المبدئي بالمشروع. ويبدو لي أنه يمكن أن نقسم التقريب إلى أنواع، لكل نوع خصوصياته ومطالبه وأهميته. وهذا هو التقسيم الذي أقترحه: التقريب نخبوي أو جماهيري -1 التقريب يكون بين العلماء، بل هم المخاطبون به أولا، يقول التسخيري: «لا شك أن العبء الأكبر من عملية التقريب يقع على عاتق العلماء والمفكرين، ذلك لأنهم، من جهة، ورثة الأنبياء وحملة الدعوة وبناة الجيل، وهم، من جهة أخرى، أعلم بالأسس التي يعتمدها التقريب، وأكثر أثرا في توحيد الصفوف وتحقيق خصائص الأمة.» إن قضايا الدين والخلاف فيه تُرد إلى أهل العلم وجوبا، قال تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا.. لذلك من الخطورة بمكان أن يتطفل غير العلماء على القضايا العلمية الأساسية في موضوع التقريب. يقول الأستاذ المغربي بنحمزة: «لقد تفطن غير واحد من العلماء إلى خطورة احتلال غير العلماء محل العلماء، إما في محاولة يائسة لسد الفراغ أو من أجل الاستفادة من الوضع الاعتباري والشفوف الاجتماعي الذي يسبغه العلم على المنتسب إليه، وقد شوهد أحدهم وهو يبكي فقيل له: ما يبكيك! فقال: اليوم سئل من لا يعلم.. إن دراسة التاريخ الاجتماعي وتاريخ الفتن والحروب على الخصوص ترشد إلى أن الصغار في نفوسهم، وفي معناهم، هم الذين يسارعون إلى دق طبول الحرب، ثم إلى إيقادها وتأجيجها. ولأنهم صغار في مداركهم وهممهم، فإنهم يستجيبون لكل نزغات نفوسهم، ولكل إيحاءات خصوم أمتهم ولا يَقْدرون دعواتهم قدرها، ولا يعبؤون بنتائجها، وهم في الغالب ظانون أنهم بمنأى عن ويلاتها وكوارثها، لأن أكثر الناس دعوة إلى الحرب هم أقلهم حياء من الفرار منها كما يقال.» والمسلمون على العموم تبع لعلمائهم، خاصة في القضايا المذهبية، لذلك يملك العلماء أن يشجعوا الناس على التقاتل، أو يميلوا بهم إلى التعاون. يقول محمد آل كاشف الغطاء: «لا لوم على عوام الفريقين في سوء الظن، كل فريق بالآخر، وعداوته لأخيه. إنما اللائمة على العلماء والعقلاء الذين يؤججون نار العداوة والبغضاء، وقد جعلهم الله إخوانا، وجعل دينهم دين التوحيد والوحدة». -2 للجمهور كلمة. ومع ذلك، لا بد، لكي تنجح عملية التأليف بين الأمة، من إشراك الجمهور فيها، لأنها إذا اقتصرت على أهل العلم والفكر تكون نتائجها محدودة، بل ربما فشلت. ويدل التاريخ على أن كثيرا من النزاعات كانت إما بسيطة أو في طريقها إلى الانقراض أو الضعف.. لكن العوام أفسدوا كل شيء، فاحتربوا وجرّوا معهم العقلاء، وهي الفتن التي تدع الحليم حيرانا. ويوجد سبب آخر مهم أيضا في نظري للعمل على الإسراع بهذا التقريب الشعبي، وهو أن للشعوب مكانة في الفعل التاريخي وأثرا وتأثيرا على النخب السياسية والفكرية.. فإذا تشبّعت العامة بثقافة التقريب، ربما ساهمت إيجابا في التخفيف من غلو بعض أهل القرار والعلم وتشددهم في التقارب مع سائر المسلمين، لأن الجمهور يضغط أيضا بطرقه الخاصة على الحاكم والعالِم معا.. وله الحق في ذلك، لأنه أول من يكتوي بنار الطائفية. وأقول بصفة عامة، كما أوضح ذلك أبو زهرة: لا يمكن في شؤون الوحدة والاتحاد أن نهمل أمور الشعوب والجماعات.. فلا بد من توعيتها بالموضوع وإشراكها بطريقة ما في القرار أو بعضه. التقريب العلمي.. إما عَقَدي أو فقهي ينقسم السعي العلمي إلى تحقيق درجة من الألفة بين الفرق إلى نوعين، ذلك لأنه إما ينصبّ على المشكلات الكلامية والتاريخية، فيكون عقديا، أي ذا طبيعة عقائدية، أو يتعلق بالفقه وأصوله، فيكون فقهيا. والغرض هنا أن نتعرف أساسا على التقريب الفقهي. وقد كان هذا النوع من التقريب من أول ما توجهت إليه العناية في هذا الشأن. ويبدو جليا في البيان الأول لجماعة التقريب التركيز على الخلاف الفقهي: تاريخه وأسبابه وضرر التعصب فيه.. بحيث شغل ذلك حوالي نصف البيان. ويعني التقريب الفقهي الجمع بين المدارس الفقهية للفرق الإسلامية، ودراسة ما عندها من علوم التشريع، والنظر في سبل استفادة بعضها من بعض، وفي إمكان تضييق الشقة بين بعض الاختلافات الفقهية الكبيرة. ويمكن اعتبار دراسة الشيخ محسن الحكيم «الأصول العامة للفقه المقارن» نموذجا للتقارب الأصولي، إذ حاول أن يكتب في أصول الفقه كتابا جامعا بين المدارس الأصولية السنية والإمامية بالخصوص. وصرّح في مقدمة كتابه بأن من دوافع تأليفه للكتاب: الرغبة في الجمع بين المذاهب. وقد قرأت بعض مباحث الكتاب، وبدا لي أنه حقق في ذلك نتائج طيبة، منها على سبيل التمثيل: بيان أن الجميع تقريبا يقول مبدئيا بالأصول «المختلف فيها»، كالمصلحة والاستحسان والعرف والذرائع.. ونحو ذلك، بمعنى أن الخلاف فيها غير حقيقي. أما في الفقه، فقد حققت فكرة التقريب إنجازا مهما، حيث يقوم الفقيه بالاطلاع على ما عند المذاهب الأخرى من علوم التشريع، وأثمر ذلك عددا من الدراسات المقارنة. كما أثمر تدريس الفقه المقارن ببعض الجامعات والمعاهد، السنية والشيعية على السواء، منها: الأزهر وجامعة طهران وبعض الحوزات الإسلامية.. ويوجد مظهر آخر لنجاح التقارب الفقهي وهو استفادة علماء السنة من بعض آراء المذاهب الأخرى، خاصة الإمامية، في الاجتهاد المعاصر. وأكثر ذلك في مجال الأسرة، كالإشهاد على الطلاق، والوصية الواجبة، ومسائل في الميراث والوقف،.. وكثير من الدول العربية استفادت من بعض هذه الآراء في قوانين الأحوال الشخصية أو الأسرة، منها: مصر والمغرب. وسبب هذا النجاح أن المذاهب الفقهية للمسلمين متقاربة أصلا. وهنا يرى الشيخ كفتارو، رحمه الله، أن أقرب المذاهب الفقهية السنية إلى الفقه الإمامي هو: الفقه الشافعي. وقد ظهر لي من القراءة في الموضوع أن صاحب فكرة التركيز على التقارب الفقهي -من جانب الشيعة- هو البروجردي. وهذا العالم الكبير، الذي ولد ببروجرد وسافر إلى أصفهان ثم إلى النجف..، كان أكبر مرجع للشيعة في زمنه، وعاش بقم، وتوفي سنة 1380ه. ويبدو أن لتركيز البروجردي على هذا النوع من التقريب سببين: الأول: ميوله الشخصية، وطبيعة تكوينه العلمي، إذ كان يغلب على البروجردي حبّ الفقه وعلوم التشريع، لذلك يعتبر من أكبر المجددين في المذهب في ما يتعلق بعلم الفقه. وكان البروجردي مقتنعا بأنه لا يمكن فصل الفقه الإمامي عن الفقه السني، وقولته في ذلك مشهورة: «إن الفقه الشيعي يقع في هامش فقه أهل السنة». ومما يعنيه بذلك أن فهم فتاوى الأئمة، كجعفر رحمه الله، لا يتأتى دون استيعاب التراث الفقهي السني، لأن الأئمة كانوا يجيبون في ضوء الأوضاع العامة للمسلمين آنذاك، ويعتبرون الفتاوى السائدة في ذلك العصر.. ولأن الفقه السني أسبق في النشأة والانتشار.. الثاني: كان يرى رحمه الله أن البحث في الجانب التاريخي من الخلاف بين الفريقين لا طائل منه، لأن موضوع الخلافة انقضى، فلا يفيد ذلك غير إثارة الشحناء بين المسلمين. بينما يمكن التلاقي بين الشيعة والسنة -ولو جزئيا- على قاعدة الاستفادة من أهل البيت وعلومهم، فيجب البحث مع أهل السنة في موضوع حجية أقوال الأئمة في ضوء حديث الثقلين. وكان يقول: «لو اكتفينا نحن الشيعة بهذا الجانب الذي يحتاجه المسلمون اليوم، وبيّنا مرادنا لأهل السنة بشكل معقول لوصلنا إلى النتيجة المطلوبة، ولتمكنّا من إقناعهم إلى حدّ ما». وإن كان الإمام لم يطوّر هذه الفكرة، فلم يوضحها أكثر، ولم يكتب شيئا منشورا في مسائلها، فكأنه اكتفى بتقرير المبدأ. وكان البروجردي بمثابة المستشار للقمي صاحب دار التقريب، فكان يشجعه ويوافقه على مشروعه. لذلك أحسب أن ميل القمي إلى العناية بالتقارب الفقهي هو من أثر البروجردي عليه، أو نقول: لعله توافق في الرأي، فلكلٍ علمه وفضله. والمقصود أن منهج التقريب عند الرجلين متقارب. يتبع...