إذا كانت فكرة تأسيس «جماعة العدل والإحسان» ترجع إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي، فانبناؤها تنظيميا مرتبط باللحظة «الخمينية» ومباشرة بحلول سنة 1980، فبعدما كان «عبد السلام ياسين» يحاول توحيد العمل الإسلامي في إطار تنظيمي «عام»، سعى -بعد إخفاق محاولته- إلى تأسيس إطاره التنظيمي «الخاص»، وهكذا أعلن في شتنبر 1981 عن تأسيس «أسرة الجماعة»، كأول تعبير تنظيمي عن «جماعة العدل والإحسان». وبعد مرور سنة على تأسيس «أسرة الجماعة»، وبالضبط في شتنبر 1982، بدأ التفكير في تأسيس إطار تنظيمي جديد يعكس تحولات المرحلة ويحظى بالشرعية القانونية، وهكذا ظهرت «جمعية الجماعة» كثاني تعبير تنظيمي عن «جماعة العدل والإحسان»، حيث وضعت قانونها الأساسي لدى السلطات المختصة بتاريخ 15 أكتوبر 1982، غير أن السلطات رفضت تمتيعها بالشرعية القانونية. بعد ذلك، قامت «جماعة العدل والإحسان» بتأسيس ثالث تعبير تنظيمي لها بتاريخ 29 مارس 1983 تحت اسم «جمعية الجماعة الخيرية». وللتذكير، فإن جماعة عبد السلام ياسين رفعت في شتنبر 1987 شعار «العدل والإحسان» الذي أصبح، منذ ذلك التاريخ، لصيقا بها وعنوانا لها. إن قوة «جماعة العدل والإحسان» تستمد من قدراتها على «التكيف» مع المستجدات من خلال مراجعة مستمرة لتصوراتها، حيث يمكن الحديث عن صنفين من «المراجعات»: «مراجعات التأسيس» و«مراجعات المسار». 1 - «مراجعات» التأسيس: أسس عبد السلام ياسين «جماعة العدل والإحسان» انطلاقا من مراجعة شاملة لمجموع التصورات التي كانت تستحضرها «حركة الشبيبة الإسلامية» بقيادة «عبد الكريم مطيع» للتعاطي مع الأوضاع المغربية. وقد انصبت هذه المراجعة على نقد المفاهيم التي يوظفها التيار «الانقلابي» المؤمن بالعنف كوسيلة للتغيير داخل حقل العمل الإسلامي، سواء تلك التي صيغت من قبل أبي الأعلى المودودي وسيد قطب أو كما سعى عبد الكريم مطيع إلى ترجمتها على أرض الواقع المغربي. تشمل مراجعات التأسيس بالنسبة إلى «جماعة العدل والإحسان» منحيين أساسيين: مراجعة مفهوم الجاهلية ونبذ العنف. يرفض عبد السلام ياسين الأطروحة القائلة بجاهلية المجتمع، ويبلور أطروحة بديلة: «الفتنة». لكن ما هي أصول أطروحة الجاهلية؟ تجسدت الأطروحة القائلة بجاهلية المجتمع في أدبيات أبي الأعلى المودودي، خاصة في كتابيه الصادرين سنة 1941: «المصطلحات الأربعة الأساسية في القرآن» و«الإسلام والجاهلية». فالمودودي لم يكتف بنعت المجتمعات الغربية بكونها جاهلية، بل سحب الوصف على المجتمع الإسلامي وجزء كبير من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. وتبنى سيد قطب هذا المفهوم/الوصف ليؤسس عليه مجمل تصوراته التي يختزلها كتابه «معالم في الطريق». كان هذا التأصيل لأطروحة جاهلية المجتمع سببا من جملة أسباب أفضت إلى انبثاق جماعات إسلامية اعتمدته وترجمته واقعا من خلال الدعوة إلى فكرة «المفاصلة». ونظرا إلى خطورة هذه الأطروحة وما يترتب عنها، سواء على مستوى التصورات أو على مستوى المسلكيات، انبرى عدد من أقطاب التيار الإسلامي لدحضها وتفنيد مرتكزاتها، وكان في مقدمتهم المرشد العام الثاني ل«جماعة الإخوان المسلمين» المصرية حسن إسماعيل الهضيبي الذي عبر عن رفضه لها من خلال كتابه «دعاة لا قضاة»، وعلى هذا النهج سار عبد السلام ياسين، رافضا أطروحة الجاهلية ومعتمدا أطروحة بديلة: الفتنة. يقول عبد السلام ياسين في كتاب «الإسلام غدا»: «مفتونون نحن غير جاهليين، وإن كان من بيننا أهل الردة من قادتنا، فإن الأمة المستضعفة لا تزال هي أمة سيدنا محمد سليم اعتقادها». إن رفض أطروحة الجاهلية له ما يبرره، ذلك أنه «إن حكمنا بأن مجتمعاتنا جاهلية خارجة عن دين الله فقد كفرنا جميعا بحكم أنفسنا، وحكم الله أن لا عدوان إلا على الظالمين وحكم رسوله أن نرفق ولا نعنف، خاصة في زمن الفتنة والهرج، وإن حكمنا بأننا جاهليون فربما نطمس معالم الحياة المتجددة طمسا لا رجاء معه لوضوح وسير، فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة ليست «جاهلية» بل تعيش في زمن الفتنة، حيث اختلاط الحق بالباطل». في إطار مراجعات التأسيس، تشدد «جماعة العدل والإحسان» على نبذ العنف. يقول عبد السلام ياسين في كتابه «المنهاج النبوي»: «لن ندعو إلى عنف أبدا»، ويؤكد أن البعث الإسلامي المرتقب لن يسفك دما ولن يضطهد أحدا. لقد تأسست «جماعة العدل والإحسان» في سياق مراجعة شاملة للتصورات التي يرتكز عليها التيار الانقلابي، داخل حقل العمل الإسلامي. من هنا، كان الرفض القاطع لمبدأ «السرية»، حيث كان هناك حرص على اعتماد العمل العلني في إطار الشرعية القانونية، ومنطق المراجعة المستمرة لأساليب العمل والتصورات هو الذي ظل يحكم مسار هذه الجماعة. 2 - «مراجعات» المسار: تؤرخ سنة 1994 لبداية مباشرة أهم المراجعات ذات الطبيعة السياسية داخل «جماعة العدل والإحسان»، وتجسد ذلك في إصدار عبد السلام ياسين لكتاب «حوار مع الفضلاء الديمقراطيين». وكانت خلفية هذه المراجعات تتشكل من تفاعل عاملين: يرتبط العامل الأول بدوامة العنف التي دخلتها الجزائر منذ الانقلاب الأبيض على الرئيس الشاذلي بن جديد في يناير 1992، أما العامل الثاني فيرتبط ببدء مسلسل الإصلاحات التي شرع فيها الحسن الثاني بدءا بإصدار دستور 1992، وما تلا ذلك من محاولة إشراك أحزاب المعارضة، الممثلة آنذاك في أحزاب الكتلة الديمقراطية، في تسيير الشأن الحكومي من خلال مبادرتي 1993 و1994. إن جماعة العدل والإحسان، عبر كتاب «الحوار مع الفضلاء الديمقراطيين» الصادر سنة 1994، ستؤسس لمراجعة سياسية تطال مستويين: مستوى تقديم الجماعة كقوة اقتراحية ومستوى إبداء الرغبة في المشاركة السياسية. يمكن القول إن سنة 1994 تشكل بداية مرحلة جديدة في مسار «جماعة العدل والإحسان»، فالجماعة شرعت في التخلص من خطاب القومة (=الثورة) لتعوضه بخطاب الإصلاح، أي ضرورة إدخال إصلاحات على النظام السياسي القائم. فكتاب «حوار مع الفضلاء الديمقراطيين» هو، في الواقع، بمثابة «مذكرة اقتراحية» إنْ كانت موجهة، في الشكل، إلى «الفضلاء الديمقراطيين» فهي موجهة، في الجوهر، إلى السلطة السياسية القائمة، وتتضمن رؤية «جماعة العدل والإحسان» لقضايا الإصلاح بما يفيد بأن الجماعة، وفقا لهذه المراجعة ذات الطبيعة السياسية، بدأت منذ 1994 تبتعد عن آليات الاشتغال كتنظيم يروم الزحف على السلطة والاستيلاء على الحكم، ولو بدون عنف، وتقترب من آليات الاشتغال كتنظيم يمارس المعارضة بمفهومها الشامل كقوة اقتراحية قادرة على مساعدة السلطة السياسية القائمة على تجاوز أزماتها. واعتبار «جماعة العدل والإحسان» قوة اقتراحية هو ما شدد عليه عبد السلام ياسين في رسالته الموجهة إلى الملك محمد السادس بعنوان «مذكرة إلى من يهمه الأمر». بعد اعتداءات 16 مايو 2003 التي استهدفت مدينة الدارالبيضاء، جددت «جماعة العدل والإحسان» موقفها الرافض للعنف، واتضح للسلطات العمومية الدور الكبير الذي لعبته الجماعة في تأخير ظهور العنف، لكونها استطاعت تأطير عدد كبير من الشباب وأبعدتهم، منذ الثمانينيات، عن السقوط في أحضان التيار السلفي الوهابي الذي كانت تدعمه الدولة. انتهزت «جماعة العدل والإحسان» أحداث 16 مايو 2003 لتدعو المسؤولين إلى انتهاج سياسة دينية جديدة من أجل إحداث مصالحة بين الفاعلين الدينيين والسلطات العمومية، تروم احتواء التطرف الديني. كما أن الجماعة حرصت على إحداث نوع من التمايز بين مجال التربية الروحية، الذي تختص به «مجالس النصيحة»، ومجال «التربية السياسية»، الذي تختص به «الدائرة السياسية» التي أحدثت منذ شهر يوليوز 1998. ومن أجل توجيه رسالة واضحة إلى السلطات في ما يتعلق بتأكيد الرغبة في المشاركة، تضمن البيان الختامي للمجلس القطري للدائرة السياسية، الصادر في نهاية نونبر 2005، توصيات واضحة تنصب على ضرورة إعداد برنامج سياسي وصياغة مقترحات تكون أساس المطالبة بمراجعة الدستور الجاري به العمل. وفي نفس الاتجاه، نظمت الجماعة أياما مفتوحة طيلة سنة 2006 للتعريف بهياكل الدائرة السياسية. منذ شهر مايو2006، شرعت السلطات العمومية في التضييق على أنشطة «جماعة العدل والإحسان». ويسود الاعتقاد بأن هذا التضييق لا يروم إحداث قطيعة مع الجماعة بقدر ما يشكل آلية ضغط عليها لتقديم مزيد من التنازلات قد تكون أساس «تسوية سياسية» بين السلطات العمومية والجماعة في مرحلة لاحقة.