أخيرا، اختارت النقابة الديمقراطية للعدل تفعيل مبدأ «حسن النية» وتعليق وقفتها الاحتجاجية بتزامن مع تدشين وزير العدل للمقر الجديد للمحكمة الابتدائية بسيدي قاسم، والجلوس إلى طاولة الحوار، وهو خيار حكيم يراعي المصلحة العامة قبل كل شيء، لأن إضراب موظفي العدل شل محاكم المملكة وأظهر، فعلا، الدور المهم والكبير الذي يلعبه كتاب الضبط لضمان السير العادي للمحاكم. فإلى حدود الآن، جربت النقابة الديمقراطية للعدل جميع «الأسلحة» النضالية منذ تنصيب الأستاذ الناصري وزيرا للعدل. وربما كان وزير العدل أول وزير مغربي «يحظى»، منذ الأسبوع الأول لتعيينه، باستقبال مدهش للنقابة كان على شكل إضراب. وعندما قال الوزير في البرلمان، ساخرا، إن بعض المضربين يستغلون الإضراب للذهاب إلى مولاي يعقوب والحمامات ل«تكميد» عظامهم، أجابته النقابة بطريقة أكثر سخرية، في بلاغ، بأن احتساب ساعات الإضراب والساعات الإضافية التي يشتغلونها بدون تعويضات كلها أشياء ستعمل على تحسين الأوضاع المادية لموظفي العدل، «مما سيمكنهم من زيارة مولاي يعقوب وغيره من المناطق العزيزة على قلوبهم والغالية على جيوبهم». الآن يبدو أن مبدأ «حسن النية» الذي لجأت إلى تفعيله النقابة سيثير غضب البعض داخل وزارة العدل، لأن تهدئة الأوضاع بين الوزير والنقابة ليست في مصلحة «اللوبي» الذي ينتظر المناسبة لوضع العصا في عجلة مشروع إصلاح القضاء الذي جاء الوزير بالضوء الأخضر من الملك لوضعه على السكة. وأكثر من ستغيظه هذه الهدنة بين الوزير والنقابة هو الكاتب العام للوزارة نفسه، السيد لديدي، الذي فضحه برلماني الكونفدرالية الديمقراطية للشغل عندما طرح سؤالا في البرلمان على وزير العدل أشار فيه إلى أن الكاتب العام للوزارة قال لهم، في اجتماعهم الأخير معه، أن يغسلوا أيديهم على القانون الأساسي لهيئة الضبط وأن زيادة 25 مليارا هي كل ما يمكن أن تقترحه الوزارة عليهم. وعندما أخذ وزير العدل الكلمة، شكر البرلماني على طرحه لهذا السؤال، ونفى كل ما قاله الكاتب العام للوزارة جملة وتفصيلا، وشرح أن وزارة المالية أعطت وزارة العدل 25 مليارا وضعت في الميزانية الخاصة للوزارة، وأن الزيادات في الأجور ستتراوح ما بين 800 درهم بالنسبة إلى أدنى أجر، و2700 درهم لأعلى أجر. بعدما كانت الزيادة في عهد الاتحادي الراضي لا تتعدى 300 درهم. السيد لديدي، الكاتب العام لوزارة العدل والمندوب السامي سابقا لإدارة السجون، ليس على ما يرام هذه الأيام داخل مكتبه، فقد تعود على الاشتغال مع وزراء العدل السابقين في تناغم يسمح له بتسيير الوزارة كيفما يحلو له. ولعل أحد الموظفين الذي تعود السيد لديدي على الاشتغال معه هو السيد محمد ملين، مدير التجهيز بوزارة العدل. هذا المدير وجد نفسه قبل أيام بدون مهمة، أي أنه موقوف عن العمل بشكل غير رسمي. وقد أسند الوزير مهامه إلى موظفين آخرين يقتسمان الملفات التي كان مشرفا عليها. مديرية التجهيز بوزارة العدل تعتبر إحدى أهم المديريات، لأنها تتحكم في بناء وتجهيز محاكم وزارة العدل بكل ما تحتاج إليه من وسائل عمل تقنية وغيرها. بمعنى أن «الصفقات» التي تتحكم فيها هذه المديرية تعتبر «البزبوز» الكبير الذي تنهمر منه الميزانيات. وبالنظر إلى المحاكم الجديدة التي شيدتها وزارة العدل، والمحاكم الأخرى التي رممتها أو أعادت صباغتها وتجهيزها، يمكننا أن نكوّن فكرة عن الميزانية المرصودة لهذه المديرية. وطبعا، فمن يقترب من هذه المديرية كمن يقترب من «العين السخونة» التي «تكمد» العظام. ولذلك فبمجرد «طرد» محمد ملين من وكالة المغرب العربي للأنباء التي كان يشغل فيها رئيس قسم المعلوميات، تلقفه وزير العدل الراحل محمد بوزوبع وعينه رئيسا لمديرية التجهيز. وقصة «طرد» السي ملين من وكالة المغرب العربي للأنباء تستحق أن تروى، فقد اقترح صاحبنا على الإدارة العامة للوكالة اقتناء نظام معلومياتي جديد سيمكن الوكالة من تحديث خدماتها الإعلامية. وكانت الميزانية المرصودة لهذه «الصفقة» تقارب 300 مليون سنتيم. وكانت الأمور في طريقها نحو التوقيع بصرف المبلغ لصالح شركة «رباطية» متخصصة في المعلوميات، لولا أن موظفا بسيطا في الوكالة وقع بصره على المشروع، فبادر إلى طرق باب الإدارة العامة مقترحا إنجاز المشروع بالمجان وبوسائل المؤسسة الداخلية. وفعلا، أنجز الموظف المشروع ووفر على ميزانية الوكالة صرف ال300 مليون، واتضح أن المشروع، الذي قدمه السيد ملين كما لو أنه فتح إعلامي مبين، لم يكن يستحق كل تلك الميزانية الكبيرة، فتم الاستغناء عن خدمات السي ملين، وارتاح منه موظفو الوكالة الذين كانوا متذمرين بسبب تبرمه الدائم وهو يشكو مما يسميه اجتياح الوكالة من طرف الطارئين على الرباط. ولم يعش السيد ملين البطالة طويلا بعد مغادرته لوكالة المغرب العربي للأنباء، فبمجرد خروجه أسس شركة للمعلوميات بشراكة مع ابن وزير العدل الراحل محمد بوزوبع، وبالموازاة مع ذلك عينه الوزير الاتحادي الراحل مديرا مسؤولا عن مديرية التجهيز. وأول صفقة بدأ بها هي صفقة تجهيز محاكم وزارة العدل بأجهزة الحواسيب وكل ما يتعلق بالجانب التقني، وكانت صفقة كبيرة ومجزية «تمعشت» بفضلها الشركة كما ينبغي. وعندما جاء اتحادي آخر إلى وزارة العدل مكان الاتحادي بوزوبع الذي توفاه الأجل، لم يستطع أن يقترب من محمية ملين، وتركه يدير صفقات المديرية كما يشاء تحت أنظار الكاتب العام للوزارة السيد لديدي. اليوم، بدأت تتغير الأمور داخل وزارة العدل، فقد فهم القائمون على مشروع إصلاح القضاء أن الوزارة هي بيت الداء، وأنه إذا لم يتم الإصلاح من الداخل فإن كل الجهود التي سيبذلها حاملو مشروع الإصلاح ستنتهي إلى الفشل. ولذلك تم توقيف السيد مولين عند حده إلى أن يتم النظر في وضعيته. ولو أن القانون يقتضي أن يعاد النظر في كل الصفقات التي قام بها ملين طيلة وجوده على رأس مديرية التجهيز بالوزارة، للنظر في مدى قانونيتها واحترام مساطرها لمقاييس الشفافية واحترامها لمبدأ المنافسة وتساوي الفرص أمام المنعشين العقاريين وشركات التجهيز. وربما لهذا السبب نفهم إصرار الكاتب العام لوزارة العدل، السيد لديدي، على السير ضد التيار وإعطاء تصريحات للنقابة تناقض الوعود التي أعطاهم إياها وزير العدل. فيبدو أن مصلحة لديدي و«اللوبي» الدائر حوله داخل دواليب وزارة العدل، هي أن يستمر موظفو العدل في إضرابهم عن العمل لوقت أطول، وأن تستمر المحاكم مشلولة، وأن تتم عرقلة القضايا والملفات، حتى يظهر وزير العدل أمام الرأي العام والسلطات العليا كما لو أنه فشل في تحقيق مشروع إصلاح القضاء وعرقل البلاد، وبالتالي يجب تنحيته حتى تعود الأوضاع في المحاكم إلى حالتها الطبيعية. إن هذا اللعب الصغير تتحكم فيه المصالح الذاتية، ولا يتم فيه وضع المصلحة العليا للبلاد ومشروع إصلاح القضاء فوق كل اعتبار. ولذلك فالنقابة الديمقراطية للعدل كانت حكيمة في قرارها القاضي بالجلوس إلى طاولة الحوار مع وزير العدل، فالحوار هو وحده الكفيل بوضع المطالب ودراسة الاقتراحات والخروج بحلول متفق عليها في إطار التفاوض وليس في إطار الضغط. لأن هذا الضغط لا يخدم مصالح موظفي العدل بالدرجة الأولى وإنما يخدم مصالح بعض الموظفين الكبار داخل وزارة العدل والذين يتمنون رؤية موظفي الوزارة يوميا أمام البرلمان عوض رؤيتهم في مقرات عملهم. وعلى الذين يصبون الزيت فوق النار في البرلمان ويطالبون وزير المالية بالاقتطاع من رواتب موظفي وزارة العدل بسبب الأيام التي أضربوا فيها عن العمل، أن يفهموا أن الإضراب حق مشروع، وأنهم كبرلمانيين يجب أن يكونوا إلى جانب الكادحين ومطالبهم العادلة لتحسين دخلهم، وليس إلى جانب الحكومة. وعوض أن يطالب السيد الأنصاري، عن فريق حزب الاستقلال، وزير المالية باقتطاع أيام الإضراب من رواتب موظفي وزارة العدل، كان عليه أن يطالب وزير المالية بالاقتطاع من رواتب زملائه البرلمانيين الذين «يضربون» عن حضور جلسات البرلمان رغم أنهم يتقاضون 30 ألف درهم من أموال دافعي الضرائب. فهؤلاء البرلمانيون الذين «يضربون» عن العمل هم الأحق باقتطاع أيام إضرابهم من رواتبهم، وليس بسطاء الموظفين. «ولا حيت هادوك عندهم الحصانة؟».