تعود بنا الذاكرة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى مقولة «طيب الذكر» هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، التي جاء فيها أن «لا حرب بدون مصير.. ولا سلام بدون سوريا». الآن، وبعد أكثر من عقدين على هذا الاستنتاج، يقر المتعاطون مع عملية السلام في الشرق الأوسط بهذا الواقع. فرغم جميع المحاولات لإضعاف دمشق، ومن ثم عزلها وتقليص دورها في العملية السلمية، لا تزال سوريا الرقم الأصعب في المعادلة الشرق أوسطية. كما وثبت، مع مرور الأيام، أنه يمكن توجيه الضربات إليها، كما حصل لدى اجتياح لبنان عان 1982، وإخراج قواتها من هذا البلد في سنة 2005، إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، والعمل على اتهامها بارتكاب هذا العمل الشنيع. لكن الوقائع تؤكد أنه لا يمكن مطلقا إبعادها عن المعادلة. والدليل، العودة حاليا إلى اصطفاف الصفوف أمام أبوابها من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الاتحاد الأوربي بعد مقاطعة دامت عدة سنوات. كما لم تنجح الضغوطات التي مورست عليها، من سياسية واقتصادية، في ثنيها عن فك ارتباطها الاستراتيجي بالجمهورية الإسلامية في إيران، أو تقديم تنازلات حيال ما تعتبره من الثوابت في فلسطين والعراق، والمقاومة في لبنان، أعني بذلك رفض سحب سلاح «حزب الله» كما تطالب بذلك كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل. انطلاقا من هذا التشخيص، فإن دمشق تمسك بأهم ثلاث أوراق استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. أولاها، في المرحلة الحالية والأكثر ملحاحية ودقة وخطورة، هي الورقة العراقية. في هذا المجال، هنالك معلومات مدعمة بالأدلة تفيد بأن هنالك شبه تفويض من قبل إيران وتركيا والمملكة السعودية لسوريا ولرئيسها بشار الأسد بالعمل على إيجاد مخرج من مشكلة تأليف حكومة الوحدة الوطنية. في هذا الإطار، أفهمت دمشق المرشح، الأوفر حظا حتى اللحظة، رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، أن شرط نجاحه في امتحان القبول هو الموافقة على إشراك الجميع، وبشكل فعلي ومسؤول، في حكومة الوحدة الوطنية المنتظرة منذ أكثر من سبعة أشهر، وبالتالي إعطاء السنة العراقييين، الذين تم تهميشهم في الحكومات السابقة التي تلت الاحتلال، مراكز أساسية، بدءا» من الأمن والدفاع والوزارات الهامة الأخرى، كذلك الابتعاد عن كل أشكال الفيدراليات المطلب الرئيسي للأكراد وللمجلس الإسلامي الأعلى، هذا الحزب الشيعي الذي يقوده عمار الحكيم، والالتزام بوحدة العراق وعروبته. أمر شدد عليه، في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقد بدمشق، كل من رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان ومضيفه بشار الأسد. أما الورقة الثانية، والتي لا تقل أهمية، فهي الورقة الفلسطينية. في هذه المسألة، ترفض سوريا أية تنازلات جوهرية، في طليعتها حق العودة والانسحاب الإسرائيلي إلى حدود عام 1967، بما في ذلك الجولان والقدس، مما يعني رفض المفاوضات غير المباشرة أو المباشرة التي يقودها، عن الجانب الفلسطيني، الرئيس المنتهية ولايته محمود عباس، فدمشق التي تستضيف فوق أراضيها غالبية مكونات منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني تدعم فوق ذلك حركة «حماس» التي تقود حكومة مقالة تسيطر على قطاع غزة وتملك نفوذا لا يستهان به في الضفة الغربية. وتأتي الورقة اللبنانية، الثالثة من حيث الترتيب والتي أثبتت فيها سوريا أنها لو خرجت عسكريا من هذا البلد الذي تعتبره خاصرة أمنها القومي، وبالتالي لا يمكنها أن تفرط قيد أنملة في مصالحها الجغرافية استراتيجية فيه، فإن نفوذها السياسي باق وبقوة. هذا ما أكدته للعالم، لأمريكا ولإسرائيل، من خلال دعمها العملي، وليس اللفظي، ل»حزب الله» في الحرب ضد إسرائيل في صيف 2006. وتعود سوريا إلى الإمساك مجددا بجزء كبير من الورقة اللبنانية الذي حدا بواشنطن إلى مفاوضتها مجددا والتعهد «بتلزيمها» لبنان شرط التخفيف من ارتباطها بإيران واحتواء سلاح «حزب الله». هذا ما رفضته دمشق، لأنها، على ما يبدو، صرفت النظر نهائيا عن التواجد عسكريا في لبنان، مفضلة عليه توسيع رقعة نفوذها السياسي عبر كسب أصدقاء جدد لها أو تحييد بعض الأعداء. في ظل هذه المعطيات والثوابت، تعود الأجندة الأمريكية ومعها الغربية في محاولة لخلق واقع جديد في منطقة الشرق الأوسط، من خلال الضغط على سوريا والإيحاء بأنها هي التي منعت إسرائيل من توجيه ضربة عسكرية إليها، أو عبر إثارة امتلاك سوريا لمشروع نووي غير سلمي بمساعدة إيران وكوريا الشمالية، أو أيضا دعم الإرهاب المتمثل في «حزب الله» الذي سيصدر قريبا القرار الظني باتهامه باغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. كل هذه الضغوطات لم تعط حتى الآن الثمار المرجوة منها، والدليل لجوء المملكة العربية السعودية بجهودها إلى معالجة الملف العراقي، والمساعدة على دعم الاستقرار في لبنان، والتخفيف من اندفاعة «حماس»، وأيضا قيام دول الاتحاد الأوربي بالاستثمار في قطاعات سورية حيوية كالنفط والإسمنت ومحطات الكهرباء وكافة البنيات التحتية، متجاهلة بذلك نصائح وتمنيات الإدارة الأمريكية في انتظار الوقت الملائم، أي بعد أن تخفف القيادة السورية من تلازم مساراتها مع إيران في منطقة الشرق الأوسط. في كل الاجتماعات واللقاءات مع المبعوثين المباشرين لباراك أوباما وغير المباشرين لوفود الكونغرس، لعاصمة الأمويين، يسمع هؤلاء الخطاب السياسي نفسه: العودة إلى مرجعية مدريد في ما يتعلق بمقولة الأرض مقابل السلام والعودة إلى حدود 1967. إذن، لا سلام بدون سوريا.