يبدو أن قدر سكان فاس أن يعيشوا، كل سنة، على إيقاع كوارث انهيارات بناياتهم وأن يرافقوا الضحايا إلى مثواهم الأخير، في جنائز الحزن والغضب ويدخلوا في احتجاجات، عادة ما تنتهي بفضها بتدخلات أمنية تشارك فيها مختلف الأجهزة، دون أن يُسمَع صداها. فاجعة أخرى استيقظ سكان «كريان الحجوي» في حي بندباب، وهو من أكبر الأحياء الشعبية في المدينة، بداية الأسبوع الماضي، على وقع فاجعة انهيار أخرى لعمارتين عشوائيتين أدت إلى انتشال 5 ضحايا، ضمنها مسنّ وشبان وأطفال صغار، من تحت الأنقاض. ونقل 6 جرحى، بإصابات متفاوتة الخطورة، إلى قسم المستعجلات، لتلقي العلاجات. وقد دفن سكان الحي ضحاياهم وسط تدابير واحتياطات أمنية مشَّددة، وعادوا مرة أخرى إلى تنظيم وقفات احتجاجية في مكان الحادث، لمطالبة المسؤولين بالتدخل لوضع حد ل«مسلسل» الكوارث الإنسانية والمادية والنفسية التي تُخلِّفها هذه الانهيارات في أحيائها. لكن المحتجين حوصروا من قِبَل قوات الأمن، وتم منعهم من تنظيم مسيرة احتجاجية مشيا على الأقدام في اتجاه مقر ولاية الجهة. وقد حاولت السلطات الإدارية والمحلية «التحالف» ل»لامتصاص» هذا الغضب، عبر التكثيف من عقد اجتماعات مع عائلات الضحايا، لإيجاد حلول لمعاناتهم، بعدما فقدوا أبناءهم وآباءهم وإخوتهم ومنازلهم وممتلكاتهم الصغيرة التي تحفظ الحد الأدنى من كرامتهم. كما حاول المنتخَبون، الذين ساروا في الجنازة دون أدنى حرج ودون أي وخز ضمير، أن يستغلوا، من جديد، أوضاعهم للتقرب منهم والاحتفاظ بهم «رهائن» لصناديقَ انتخابية توضع رهن إشارتهم، كل خمس سنوات، وتمنح لمحترفي الانتخابات من أجل العودة إلى مناصب المسؤولية، في حين تتوالى فواجع السكان ومِحَنُهم في أحيائهم العشوائية التي أُجبروا على دخولها، بعدما غادر عدد كبير منهم البادية، فرارا من توالي سنوات الجفاف ومن انعدام فرص الشغل، في اتجاه «غول» المدينة المجهول، دون أي بوصلة. جثث وضحايا في نصف السنة الأخيرة فقط، أودت الانهيارات بحياة 11 مواطنا في مدينة فاس وأصيب عدد مماثل إصابات متفاوتة الخطورة. ومن أحدث هذه الانهيارات قبل فاجعة العمارتين، انهيار سقف فندق للصناعة التقليدية في «درب الطويل» في المدينة العتيقة، في شهر أبريل الماضي، مخلفا قتيلا في صفوف الحرفيين، في وقت كانت وكالة إنقاذ فاس تُجري أشغال ترميم في البناية ذاتها. وأعلنت السلطات، حينها، أنه تم فتح تحقيق لتحديد ملابسات انهيار سقف هذا «الفْندْق»، لكن هذا التحقيق لم تخرج نتائجه بعدُ إلى حيز الوجود. ولإخلاء ذمتها من المسؤولية، أكدت أنه سبق لها أن أبلغت مالك هذا «الفْندق» العتيق بضرورة التعجيل بترميمه، قبل أن تشرع وكالة التخفيض من الكثافة وإنقاذ مدينة فاس في أشغال تدعيم على مستوى الطابق الأول للفندق. ويقول الحرفيون إن هذه الأشغال العشوائية ساهمت في انهيار البناية التي يعملون بها. وفي شهر أبريل الماضي، أيضا، أُعلن عن مصرع أربعة أشخاص من عائلة واحدة وإصابة ستة آخرين بجروح متفاوتة الخطورة. والصادم أكثر في هذا الانهيار هو مقتل أم رفقة أبنائها الصغار الثلاثة في الحادث. وبمجرد ما تنتهي عمليات دفن الضحايا، تضطر العائلات المتضررة التي تواجه التشرد إلى جانب فاجعة فراق الأهل، مسلسل الوعود من أجل إيجاد حل لمشكلة إعادة إسكانها. وعادة ما تنتهي هذه الوعود دون أي نتيجة. وتضطر العائلات إلى مواجهة مصيرها المجهول بنفسها. جدوى الوكالة في سنة 1991، بدأت وكالة إنقاذ فاس، وهي شركة خاصة برأسمال عمومي، أشغالَها من أجل تنفيذ مشروع إصلاح وترميم البنايات المهدَّدة بالانهيار في المدينة العتيقة لفاس. وقد بدا المشروع، الذي مُوِّل جزء كبير منه في تلك الفترة من قِبَل صندوق النقد الدولي، كبيرا وطموحا. لكنْ، مع توالي السنين والعقود، تبيَّن أن الأموال الطائلة التي رُصدت لإنقاذ المدينة العتيقة من خطر الانهيار وإعادة الحياة إلى تراثها العالمي وتاريخها العلمي قد صُرفت في أمور أخرى غير مشاريع الإنقاذ!... ولم يتردد بعض الاستقلاليين، أثناء إثارة الموضوع في إحدى دورات مجلس فاس، في الإشارة إلى أنه يجب إعادة فتح الملف الذي يتهمون بعض الاتحاديين بالتورط فيه حتى النخاع، إلى حد أن ميزانية مخصصة للحمير التي تنقل الأتربة والسلع للترميم قد تم تضخيم الميزانيات المخصصة لها في فاتورات وهمية بعشرات الملايين... ومع ذلك، ظلت هذه الوكالة التي تقتات من بعض الدعم العمومي ومن قطع عقارية وُضعت رهن إشارتها تواصل مشاريعها، والتي بموجبها يفرض على أصحاب البنايات المستهدفة التكفل بنصف المصاريف، على أن تتكفل الوكالة بالنصف الآخر. وعندما استنفدت مداخيل بقعها الأرضية التي حولتها إلى تجزئات سكنية، وجدت نفسها أمام وضع مالي يهددها بسكتة قلبية في أي لحظة، وبأفق يبدو مظلما بعدما تخلّت عنها كل الأطراف التي تعتبر عضوا في مجلسها الإداري الذي لا ينعقد سوى مرتين في السنة، وفي ظل تقرير للمجلس الأعلى للحسابات رسم عن مبادراتها صورة سوداء، وتحدث عن اختلالات في تدبير شؤون صفقاتها التي تم بعضها بمكالمات هاتفية فقط، كما تحدث عن خطر الانهيار الذي ما زال يهدد حتى البنايات التي تم ترميمها، بسبب اعتماد مشاريع الإصلاح والترميم على الأعمدة الخشبية فقط، وهي أعمدة تتعرض للتآكل بعد مدة من الزمن، ما يجعل المال العام يضيع دون أن تحد هذه المبادرات من خطر الانهيار الزاحف، الذي يستمر في الإجهاز على أرواح السكان، مخلفا أضرارا بليغة بهذا التراث العالمي. وقد اضطر ما يقرب من 60 مستخدَما في هذه الوكالة إلى «خرق» هدنة ضمنية وقعتها نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب مع إدارة الوكالة واستمرت لحوالي 11 سنة، ودخلوا، بسبب «عدم اتضاح الرؤيا» في وكالتهم، في مسلسل من الوقفات الاحتجاجية، كل أربعاء وخميس من كل أسبوع طيلة شهر أكتوبر الجاري. ومن أغرب مطالب هؤلاء المستخدَمين مطالبتهم بتسوية مستحقات عالقة من أجورهم تعود إلى الفترة ما بين 1991 و2002. بينما فضل بعضهم أن يستجيبوا لمقترَح اعتمده مجلس إدارة الوكالة للمغادرة الطوعية، تخفيفا من عبء الموارد البشرية، وسارعوا إلى وضع طلباتهم، لكن هذا الملف، وبسبب الأزمة المالية الخانقة التي تمر منها الوكالة، وبسبب تخلي كل الأطراف عنها، تم تعليق الاستجابة له إلى وقت لاحق لا أحد يعرف حدوده... النزيف متواصل ليست بنايات وأسوار المدينة العتيقة وحدها التي يهددها الانهيار في أي لحظة، بسبب تقادمها أثناء كل موجة من التساقطات المطرية. فجل الأحياء العشوائية التي شُيِّدت في غياب أي معايير عمرانية وأي مراقبة، منذ بداية ثمانينيات من القرن الماضي، وما زال بعضها مستمرا في التنامي إلى حدود اليوم، أصبح شبح الانهيار المخيف يهدد عماراتها العشوائية التي تعتريها التشققات والتصدعات من كل جانب، بسبب الغش في البناء. وعادة ما تكتفي السلطات أثناء إخبار العائلات لها بالخطر المحدق بها بصياغة رسائل رسمية تطالبها بالإفراغ فورا من دون أي إجراءات مواكبة ودون تقديم أي بدائل، وذلك لكي تُخلي ذمتها من أي كارثة يمكن أن تقع. وفي كل مرة تحدث الفاجعة، تسارع السلطات إلى التأكيد على أنها وجهت رسائل الإفراغ إلى المواطنين المتضررين، لكن هؤلاء لم يستجيبوا لطلبها، في إشارة ضمنية إلى أن الضحايا هم الذين يتحملون وحدهم مسؤولية ما يقع لهم من كوارث. وتحيط هذه الأحياء بكل جوانب مركز فاس، فباستثناء حوالي 4 أحياء تُصنَّف على أنها الراقية في المدينة، والتي تم تشييدها وفق تهيئة عمرانية مصادق عليها، فإن جل أحياء المدينة تُصنَّف على أنها أحياء عشوائية بُنيت في ظل تواطؤات غامضة بين محترفي البناء العشوائي وبين أعوان ورجال سلطة ومنتخَبين. فجل أحياء منطقة المرينيين، التي شهدت أحد «كارياناتها» فصول الفاجعة الأخيرة، هي عبارة عن أحياء عشوائية تخترقها عمارات عشوائية عدد منها مهدَّد بالسقوط فوق رؤوس ساكنيها. كما أن جل أحياء منطقة «جنان الورد» تعاني من نفس الخطر. ونفس الخطر قائم في حي «عوينات الحجاج» في منطقة سايس، وبعض أحياء «بنسودة»، إلى جانب حي «فاس الجديد»، المحاذي للقصر الملكي في مركز المدينة. وكانت وزارة الداخلية قد أوفدت، في الآونة الأخيرة، عدة لجن للتفتيش إلى المدينة وضواحيها، لإعداد تقارير حول ملف البناء العشوائي، إلا أنه تُجهَل، إلى حد الآن، مضامين هذه التقارير ومآلها. ولم يحدث أن تم الكشف عن التحقيقات التي يقال، على إثر كل فاجعة انهيار، إنها فُتحت للوصول إلى ملابساته وتقديم المسؤولين المتورطين للعدالة...