ل«الشخصية» أكثر من 40 تعريفا، وهي ببساطة ما يميز الشخص عن غيره، ونقصد ببناء الشخصية السير بها نحو الكمال الإنساني، إذ إن تطوير الجوانب المتصلة بشخصية الإنسان يعتبر بحق أهم ثروة وأهم مرتكز لأي بلد من أجل تحقيق التنمية الفردية والاجتماعية. وتبقى الحاجة إلى طرق هذا الموضوع والتنبيه إلى أن أهميته تكمن في أن الإنسان العربي اليوم يعاني، عموما، من قصور كمي ونوعي. فقد فشلنا في إحداث التراكم الكافي لبناء الشخصية الإيجابية والفعالة في مجالها ووظيفتها ومحيطها. إن النهضة الأوربية قامت على أساس مركزية الإنسان (الإنسيون اعتبروه محور اهتمامهم وخاصة فكره وروحه، والأنوار اعتبروا تحرر الإنسان وتحقيق كرامته وسعادته منطلق التقدم والازدهار) فكانت النتيجة أن تفتح العقل الأوربي وآمن بإمكانية التغيير، وبالتالي أدى ذلك إلى ظهور اكتشافات واختراعات مذهلة غيرت مجرى التاريخ لصالح الدول الأوربية إلى يومنا هذا. إذن، يجدر بنا أن نتعلم ونعلم أبناءنا وشبابنا... والإنسان العربي عموما، ألا يكون شخصا «عاديا» (من عوام الناس)، وأن يبتعد عن الإمعية والغثائية والنمطية والآبائية (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) بل «محوريا» صاحب إرادة قوية وطول نفس وأن يتحلي بالصبر والرغبة في التحدي والتمحور حول مبدأ نبيل، وأن نمنحه، عبر التربية العميقة والتكوين الدقيق والعمل المتواصل، إحساسا وقناعة بضرورة وإمكانية التغيير والإبداع والاختراع، والقبول بالذات وتشخيص أمراضها وعدم اليأس، وأن نعلمه أن يحلم، لكن مع التدرج والالتزام بما يحلم به، وعمل ما هو ممكن ولو كان قليلا، عوض التسويف ريثما تتحسن الظروف، لأن «المفضول المتيسر أولى من الأفضل المتعسر» كما هو معروف. الشخصية المتوازنة ما هي إلا نتيجة فكر وتصور متوازن والعكس صحيح، فكر وتصور ينبني على الهوية الحضارية، ويركز على الأهداف الكبرى للوجود: من أنا ؟! وماذا أريد في الحياة؟! ولهذا تبقى الحاجة ملحة إلى التعرف على المبادئ والمنطلقات الصحيحة التي تستخدم في التفكير الذي يساعد على فهم الحقائق والمعلومات بطريقة جديدة وبناء الفكر وتجديده بما يقود إلى التقدم، إذ إن الفكر القديم غير المتجدد مثل النقود القديمة التي قد لا تصلح للتداول. فالتفكير والعقل حينما يصطدم بالواقع يعود إلى مخزونه الثقافي والفكري. وبذلك لا يمكن لمجتمع أن ينهض ما لم يتقدم الفكر ويتجدد لدى أبنائه. ويمكننا بعد ذلك أن نتساءل: لماذا نقرأ ونتعلم؟ إنه لا بديل عن القراءة في بناء الشخصية، فالقارئ المطَّلع أوسع أفقا وأنضج في التعامل مع مواقف الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية، وأقدر على حل مشكلاته وتنظيم أفكاره، وأقدر على الإنتاج والإبداع. إن أسلحة العلم اليوم هي الأسلحة الأشد فتكا، حيث صار من الممكن تحويل الخصم إلى تابع مجند لخدمة أغراضك بدل أن تتخلص منه بطريقة ما. ولذلك قيل إن الشرقي إذا أراد الخلاص من شخص شدخ رأسه، والغربي فتح له كلية! إذا كانت المدرسة والجامعة مكانا حاسما لصقل شخصية المتعلم وتكوين العقل الجمعي والروح الجماعية، فإن نسبة الذين يحصلون على الإجازة/المتريز في المغرب مثلا لا يتعدون 1 في المائة من مجموع الممدرسين، بمعنى أننا سحبنا الثقة من العلم، وذلك سواء في معاهدنا وجامعاتنا أو في حياتنا العامة. وهنا تحضرني قصة صديقين قديمين، صار أحدهما أستاذا في الجامعة، والآخر مقاولا توسعت مشاريعه وامتدت إلى أنحاء ومناطق... في أحد الأيام بعد طول أمد، جاء الأستاذ عند صديق الطفولة ليستأجر منه شقة، فما كان من هذا الأخير إلا أن سأله مستغربا عن سبب عدم قدرته على امتلاك مسكن خاص، فرد عليه بأنه انشغل بتربية العقول في الجامعة! بميزان وحساب خاص وفي صورة الناصح الأمين صرح له: إنك لو ربيت عجولا لكان أفضل لك! هذا «الفكر العجولي» يمكن أن تلحظه حتى على المستوى الرسمي، فميزانيات التربية والتعليم والتكوين تجدها أهزل الميزانيات وأضعفها، هذا دون أن نسترسل في الحديث عن الأبعاد الأخطر! وللقارئ الكريم واسع النظر! لا بد من تضافر الجهود الجماعية الرسمية والشعبية لتنمية الإنسان قبل تنمية العمران، وذلك بتوفير الكتاب الجيد المفيد وتيسير ولوج الخزانات والمكتبات، وتطوير تجربة الجامعات الشعبية المفتوحة، وتوجيه الإعلام لتنمية الفكر عوض «عاود دردك» و«حمادشة العولمة» وغير ذلك، والتحريض على إدمان القراءة بجعلها عادة كعادة الأكل والشرب والنوم... فالمستحيل درجات، وكلما تعلم الإنسان وجرب كلما هان عليه المستحيل وصار ممكنا... ولهذا كانت «قيمة المرء ما يحسنه». مهارة الفكر والقراءة وحدها لا تكفي، والمهارة اللفظية ليست كافية في كل الأحوال، ولهذا نحتاج إلى مهارة الفعل وتنمية الإبداع. إن تحويل النظري إلى عملي وتجربة الحياة اليومية والعمل الجمعي والسياحة في الأرض والاستعداد للمغامرة ورفع التحدي... كلها تساعد على بناء الفكر والإدراك الجيد للواقع وحسن اتخاذ القرارات الحاسمة وتحديد الاختيارات الكبرى في الحياة. إننا نناشد الذين يستوردون المنتوجات الصناعية وتقنيات تشييد المباني الضخمة ووو... أن يستوردوا لنا تجارب تنمية شخصية الإنسان التي هي رأس المال ورأس الأمر كله! لأن المساعدة في بناء الإنسان الكبير الذي يعد الثروة الأساس أهم من المساعدة في بناء المطارات والطرق والموانئ ... وكل ما يخطر أو لا يخطر على البال !